هدايا الأحزان

عقب تلك الواقعة بـ4 أعوام توفت جدتي، وكانت الدنيا وما فيها لأبي، حزن عليها حزناً شديداً، وتركتنا أمي عند خالتي حتى لا نعيش طقوس العزاء والحزن وتلك الأمور، وبعد أسبوع جاءت أمي لاصطحابنا للبيت، وكان أبي جهز هدايا لنا عوضاً عن غيابه أسبوعاً كاملاً.. تعجبت لهدايا الموت والأحزان

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/20 الساعة 08:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/20 الساعة 08:00 بتوقيت غرينتش

في صباح يوم صيفي استيقظت وأنا قلبي ينتفض، فميس كوثر أقسمت أنها لن تسمح لي بالنجاح إلا إذا حصلت على درس خصوصي ببيتها، رغبة ميس كوثر في دفعي للحصول على درس خاص وضعتني أمام أول تحد في حياتي.. كنت فى الصف الأول الإعدادي عندما وقفت تطلب مني بل تجبرني على أن تعطيني درساً خاصاً، فاعتذرت بأدب وقلت: إن أمي وجدتي تجيدان الإنكليزية ولست بحاجة لدرس، فكررت طلبها وكأنها لم تسمعني، فكررت إجابتي فقالت لي كلمة واحدة: لن تتجاوزي هذا العام إلا إذا حصلت على درسي.. كان طلبا وقحاً من وجهة نظري، خاصة أن البنات في الفصل كن يبكين من معاملتها السيئة لهن.. ذهبت لأبي ورويت له ما حدث وأبلغته أنني قابلت تحدي المدرسة.. ظلت شهادتي تذهب لأبي كل شهر ومادة تلك المعلمة مصفرة.

وفِي هذا اليوم الصيفي كانت نتيجة نهاية العام، ذهب أبي لإحضار الشهادة.. انتظرته وأنا مرعوبة، هل ستظل هذه المادة مصفرة؟ إلا أن عودة أبي بددت مخاوفى؛ حيث عاد ومعه هدية ما زلت أحتفظ بها حتى الآن، ساعة من أشهر الماركات ذات لون أحمر مميز، وقال لي: مبروك النجاح.. شعرت بالفرح ونجاحي في أول اختبارات حياتي .. ومر شهر من الإجازة، وإذ به يجلس مني ويطالبني بمراجعة مادة اللغة الإنكليزية حتى أدخل امتحان الدور الثاني، أصابني الذهول، هل رسبت في تلك المادة ونجحت ميس كوثر في قرارها؟ إلا أن أبي قال لي: بل نجحت، ولذا أحضرت لك هديتك.. نجحت في الصمود 7 شهور أمام تعنت تلك المدرسة.. وهي الآن يحقق معها بسبب فعلتها معك.. كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي اهتز فيها تفوقي الدراسي.. لكن الدرس الأهم هو ما علمه لي أبي ودعمه لي في وقت حزني وهديته الجميلة.. فالهدايا تغسل الأحزان .. والهدية ليست بقيمتها بل بتوقيتها الصحيح ورسالتها، فالهدية قد تكون كلمة أو قصاصة ورق أو مكالمة في توقيتها المناسب.. قد تكون ابتسامة أو مساندة وقت الحاجة..
وهدايا الأحزان غالية القيمة، بل تضاعف قيمتها هدايا الفرح والمناسبات.

عقب تلك الواقعة بـ4 أعوام توفت جدتي، وكانت الدنيا وما فيها لأبي، حزن عليها حزناً شديداً، وتركتنا أمي عند خالتي حتى لا نعيش طقوس العزاء والحزن وتلك الأمور، وبعد أسبوع جاءت أمي لاصطحابنا للبيت، وكان أبي جهز هدايا لنا عوضاً عن غيابه أسبوعاً كاملاً.. تعجبت لهدايا الموت والأحزان
فبادرته أختي الصغيرة حينها هل توقف حزنك على جدتي؟ وكانت خالتي أعطنا الوصايا العشر بعدم إزعاج أبي باللهو والتوقف عن الطلبات والرغي؛ لأنه حزين على أمه.

جاء رد أبي لن تمحو الأيام حزني على أمي.. لكني أيضاً أحبكم، ولا بد أن أعيش من أجلكم، كان أبي دائماً ما يربط أي مناسبة بهدايا وطقوس خاصة بها، فكنا نحتفل برأس السنة وكأنه عيد، والعيد الهجري والمولد النبوي وحتى سفري من مصر كان أبي يحتفل بعيد ميلادي.

وعند وفاة جدتي لأمي فعل أبي ما فعله عند وفاة والدته، وكان يعلم مدى تعلقنا بجدتي لأمي.
دروس أبي نسيتها مع الأيام.. حتى عادت مع وفاته.. حدثني قبل وفاته بعدة أيام وكان يلح في رؤيتي، لم أدرك أنه الوداع.. لكني شعرت بلحظة وفاته قبل أن يبلغني أحد.. مات أبي وأنا وحدي في بلد غريب أبحث فيه عن علاج للنفس بعدما دمرتها أوجاع الغربة الإجبارية.

لم أبكِ كثيراً لحظة معرفتي بالأمر قدر ما تذكرت كيف كان يتصرف أبي.. أوقفت دموعي ومشاعري ورتبت أمور الدفن والمستشفى والمقابر والسيارات.. فأخوتي لم يحملهن أبي يوماً المسؤولية عكس ما فعل معي وأختي الصغيرة.

رتبت أمور أبي وأنا في طريقي للمطار لن يدفن أبي دون وداعي.. لا أعرف هل كنت مدركة ما أفعله أم لا؟ كيف لي بترتيب الأمر حتى يدفن أبي سريعاً تكريماً له، وفِي الوقت ذاته أبحث عن رحلة طيران لمصر بعيداً عن طولها الزمني لن تسمح لي سلطات بلادي بتجاوز المطار والمرور إلى أبي؟

في تلك اللحظة غاب ما تبقى من أصدقاء مقربين وظهرت هدايا الأزمات، اتصلت على صديق لم أتواصل معه منذ زمن أطلب منه أن يلحق بأخواتي بالمستشفى..فيهرول إليهن في ثوان… تقوم والدة صديقة عزيزة بالتدخل لإنهاء الإجراءات، تصل أمي للمستشفى وقد انتهت إجراءات أبي، اللهم إلا الغسل.

يخرج الجثمان من المشفى خلال ساعة فقط.. تذكرت رغبة أبي بدفنه بجانب والدته وهي وصية أحملها منذ كنت في الصف الأول الإعدادي، كل تلك اللحظات تحمل هدايا من الله.. هدايا من الصبر والعون، لا أعلم من أين أتت. حزنك يا أبي لا يسقط بالتقادم، بل تزيده الأيام عذاباً وشوقاً وقهراً على فراق دون وداع، حزني عليك صغر أمامه كل الأوجاع وهان كل الألم.

يعتقد البعض أنني قوية وأنني تجاوزت أحزاني بابتسامتى المصطنعة، لكن لا يعلم أحد حالي عندما أخلد إلى نفسي، أو عندما أطهو طعامي، وأنا أعلم كم تحب طعامي.

اقترح معارف إقامة صلاة الغائب على أبي في بلد لم يزُرها من قبل، ولم يعرف حتى إنني بها، وصلى عليه عشرات من البشر لم يعرفوه أو يعرفهم، لكنهم دعوا إليه بإخلاص، فكانت هدية وما أعظمها من هدايا.. ذكرتني بهدية وفاة جدتي، تحولت رحلتي لساعات من العزاء واستقبال أناس لم يكن على أجندة أي منا لقاء الآخر.

شعرت بمشاعر أناس كنت أعتبر بعضهم أصدقاء فضاء إلكتروني جامد لا تحركه المشاعر، وكل منهم جلب لي هدايا، تعجبت في بداية الأمر، هل هو عزاء أم حفل عيد ميلاد، فهناك من جلب لي ملابس كنت أتمنى شراءها، ولم أحدث بها أحداً، ومنهم من جلب لي أكواب قهوة وشاي، كنت أتمنى جلبها حتى التمور والقهوة، فإسطنبول بلد الهدايا الراقية، أتذكر أستاذتي هبة رؤوف التي جلبت لي هديتين؛ الأولى أن فرغت نفسها يوماً كاملاً وتركت محاضرتها لتهون عليّ وجع وألم الفراق والهدايا. الثانية طقم القهوة الذي تمنيت شراءه، ولم تكن تعلم بذلك صديقتي بالدوحة من أصول مغربية، والتي عجلت بموعد رحلتها إلى إسطنبول حتى تشد من أزري وتكون بجانبي.. وصديقاتي عبير وأسماء وكأن الله جمع ثلاثتنا في هذا المكان حتى أَجِد مَن ارتمى في حضنه، لم أدرك كثيراً من الوجوه التي قدمت للعزاء حينها، وتعجبت كيف لكل هؤلاء أن يأتوا ولم تجمعنا علاقات مباشرة.. لكن مساندتهم كانت هدية السماء.

عدت إلى وطن الغربة الإجبارية، هذا الوطن الذي عايشت فيه أنواع مختلفة من الأوجاع، لكن وجع اليتيم حقاً لم أتوقعه ولم أستعد له.. عكس ما دربت نفسي عليه من مقاومة وجع الاشتياق.. نعم وجع اليتم وأنا في هذا العمر وجع وكأنني عدت طفلة ترى في أبيها السند.. لا أنكر أننا كنت أستقوي بأبي على مواجهة الدنيا، بل وأشعر بالقوة عند أي خلاف مع زوجي؛ لأن أبي موجود.

علماً بأن أبي لم يتدخلا في خلافاتنا إلا مرة واحدة، وكان في صف زوجي فهو الذي أوصاني يوم زفاف، وقال لي: لا تعودي يوماً غاضبة، فاليوم زوجك هو أبوكِ وابنكِ وأخيكِ. عدت وكانت هناك محطة جديدة من الهدايا… وليس كل الهدايا ما يمنح لك فقط، بل ما يمنع عنك أيضاً وقد يسعدك فيما بعد.. فكانت محطة فلترة جديدة لمعرفة معادن البشر، لكن مع الوقت ستجد أن فراق بعض من كنا نعتقد أنهم أصدقاء نعمة وهدية، المواقف والسماء نعمة تستحق الشكر.

وطن الغربة ليس بوطني ولا ساحتي لإنشاء صداقات جديدة.. لكن كسر قدمي ومن بعدها كسر ظهري بوفاة أبي كشف لي أن الحياة تمتحني من جديد.

هن مجموعة من السيدات عربيّات الأصول جمعتنا الابتسامات والتحيات العابرة في ساحة مدرسة ابنتي عندما علمن بكسر قدمي، كن الأسبق في دعمي ومساندتي رغم عدم معرفتنا أسماء بَعضنَا البعض.. وعند وفاة والدي كانت العلاقة أكثر قرباً فاقترحت بعضهن إعداد ختمة قرآن ووهب ثوابها لأبي.. كن 4 سيدات، لكن حضر الختمة أكثر من 25 سيدة لم أعرفهن أو يعرفنني من قبل.

بينما اعتذر أغلب المعارف عن تلك الختمة، واعتبر بعضهم العزاء كلمات تردد في رسائل عبر الهاتف أو السوشيال ميديا.. وكلمات تردد عندما تجمعنا أرصفة الشوارع صدفة تجمعت السيدات وقمن بختمتَين بدل واحدة، وأحضرت بعضهن الطعام وظل الدعاء يتردد في هذا اليوم.. ورغم وجعى بأن كل هذا يحدث على أبي إلا أن اليوم انتهى بسكينة عجيبة سكنت القلب وبكيت أبي حق البكاء، وشعرت أن هذا اليوم من هدايا الموت.. وكأن أبي أرسل لي هدية وسخر الله لي هؤلاء النسوة.. وكذلك أرسلت لأبي هذا الدعاء أسأل الله أن يكون مقبولاً.

في تلك الفترة تواصل معي أصدقاء المدرسة وقد فرقت بيننا الأيام وجمعتنا وفاة أبي مجدداً، ليس عبر الرسائل والاتصالات، بل دعمهم لأسرتي وذهابهم بدلاً منّي لتقديم العزاء مع أهلي.. شيرين تلك الفتاة صاحبة الابتسامة الجذابة التي عرفتها في إحدى المؤسسات الإعلامية ولم تجمعنا صداقة من قبل، لكنها من يوم وفاة أبي وحتى اليوم وهي ترسل لي رسائل شبه يومية، أشعر أنها من السماء، هذه صديقتي الفلسطينية المقيمة بمصر، التي قررت أن تتصدق على روح أبي ولم تعرفه يومياً، وهذا الصديق الذي ذهب خصيصاً للسعودية لأداء عمرة عن أبي، وطلب منّي مشاركته في أي ختمة قرآنية على روح أبي.

اليوم يمر عيد ميلادي لأول مرة دون أبي، لكنه لم يحرمني هديته، وقدم لي في الحلم ليقول لي إنه بخير في الماضي.. معه شعرت أن لهدايا الأحزان قيمة كبيرة تطهر النفس وتمحو الحزن، وتسكن بدلاً منه سكينة لا يدركها إلا مَن لمس قلبه الحزن.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد