أبي.. إذا كنتَ تحب هذا الاختصاص كثيراً، ما رأيك أن تدرسه أنت؟
لطالما كنتُ أريد ترديدَ هذه الجملة كثيراً، أو على الأقل قولَها لمرةٍ واحدة عندما شارَفْتُ على إنهاء المرحلة الثانوية والدخول في دوامة الاختيارات والاحتمالات المفتوحة التي تزداد كلما زاد معدلك في الثانوية.
هذا المعدل الذي يكون لعنةً علينا سواء زاد أو نقص؛ فنقصان المعدل يعني حرمان الطالب من فروع كثيرة خاصة العلمية منها، وأما زيادة المعدل فتفتح أبواباً لا تنتهي من الخيارات، ويبدأ المجتمع يمارس ضغوطَه، ويتطلع إلى تحقيق أحلامه بواسطة الطالب السوبرمان الذي يستطيع النجاح في كل الكليات والاختصاصات حَسَب زعمهم.
ولعلَّ القولَ الفصلَ في هذا الأمرِ هو للأهْل وليس للطالب نفسه؛ فالطالب في المرحلة الثانوية لم يبدأْ بَعْدُ حياتَه العملية، ولا يعرف سوقَ العمل ولا حتى محتوى التخصصات الجامعية، حتى إذا دخل الجامعةَ وجدَ فيها العَجَبَ العُجَابَ مِن محتوًى لم يخطر على باله قط؛ فالأهل الحريصون على مصلحة ابنهم -دون أدنى شك- يرون لابنهم ما كانوا يريدون تحقيقه في صِغَرهم أو ما رأوه من حياتهم العملية.
وفي عالمنا العربي لا شك أن الطب والهندسة والصيدلة تحتل المراتب العليا في قائمة رغبات الأهل والمجتمع، بل ويَعْتَبِر الطبيبُ والمهندس والصيدليُّ أنفسهم أنهم نخبة المجتمع ورواده، وأنهم الطبقة الراقية المتعلمة المثقفة لتحل باقي التخصصات في المرتبة الثانية والثالثة.
لا نريد إغفال العامل المادي الذي يؤثر بشكل مباشر على رغبات الأهل وقرارات الطالب. لطالما كان والدي يردد لي أن الطبيب يكسب مكانة اجتماعية راقية، إضافة إلى مكاسب مادية كبيرة، وهذان عاملان كافيان لأن تدخل هذا الاختصاص بدون تردد، ويقول لي: "شو في أحسن من الطبيب؟".
تعد هذه المحاولة الأولى في تشويش الرؤية عند الطالب؛ فإن فشلت محاولة الترغيب هذه تبدأ المرحلة الثانية، وهي مرحلة الترهيب.
عبارات ترهيبية مثل ماذا ستفعل لو ذهبت لاختصاص آخر ولم تجد عملاً؟ هل ستبقى في المنزل دون عمل مثل بقية شباب بلدك؟ هل هذا أفضل ما يمكن أن تنجزه في حياتك؟
وعبارات كثيرة لا تنتهي من كتاب "الترغيب والترهيب للطالب النجيب". وغالباً تتم هذه العملية بنجاح، ويفقد الطالب ثقته بنفسه وبالخيارات التي جمعها في رأسه؛ لأنه لا يعرف سوق العمل، ولا يمتلك أدوات قياس هذه الرغبات التي يميل إليها؛ فيصبح هذا التوجيه -بنظر الأهل- تنويماً معناطيسياً لا يفارق الطالب إلا بعد سنوات من الدراسة في الجامعة أو ربما بعد التخرج ودخول سوق العمل.
أما السلاح الفتاك والحصن الأخير الذي يستعمله الأهل في "توجيه" الابن هو اللعب على الوتر الديني والدخول من باب "رضا الله من رضا الوالدين" فيحاولون الإيحاء له أن اختيار التخصص الذي يرغبون به هو إرضاء لهم، وبالتالي هو من باب التقرب إلى الله تعالى. فتختلط المفاهيم عند الطالب بشكل كبير ليواجه في نفس الوقت الخوف من الله والخوف من سوق العمل والبطالة أمام رغبة في اختصاص معين، فتبدأ هذه الرغبة السلمية بالانحسار أمام مُدَرعَات الأهل!
وفي الحقيقة هذه المشكلة ليست وليدة اللحظة، إنما هي مشكلة توجيه تبدأ من الطفولة؛ فالمتوجب على الأهل بالدرجة الأولى هو تأمين الرعاية والنصح والتوجيه لأبنائهم؛ حتى يكونوا أفراداً فاعلين في المجتمع بما يتوافق مع قدرات ورغبات الأبناء.
لا شك أن الله تعالى منح كل إنسان نقاط قوة فكرية أو جسدية، ويكون جزءاً كبيراً منها بالفطرة منذ الولادة، فالقدرات التي نتمتع بها يمكن تطويرها بشكل كبير؛ لتصل إلى مستوى الإبداع لو كانت هذه القدرات منسجمة بشكل كامل مع شخصيتنا ورغباتنا وظروفنا المادية الأخرى. وهنا يأتي دور الأهل في اكتشاف قدرات الطفل وتنميتها حتى يصل بعد 18 سنة إلى مستوى متطور ومبدع، تخيل معي!
في كلمة أخيرة: أتمنى ألا تستمر فكرة "اختيار التخصص الجامعي من إرضاء الوالدين"، فإرضاؤهم واجب في حقوقهم علينا، وهي واضحة في شرع الله تعالى، أما إجبار الأبناء على دراسة تخصص مخالف لرغباتهم مخالف للمنطق والشرع في آن معاً، وهنا نتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلٌّ مُيَسرٌ لما خلق له". وقال أيضاً: "الأعمال بالخواتيم" فلا نفرح كثيراً بدخول الكلية، فالخاتمة السعيدة هي الحَكَم الفَصْل.
فهل خضعتَ لرأي الأهل وتوجيههم؟ وكيف كانت الخاتمة؟ تابعوا ذلك في المدونات القادمة.
– تم نشر هذه التدوينة في موقع زدني
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.