هو أحمد بنُ عبدِ السلامِ بنِ تَيَميَّة الحرانيُّ – وَتيميَّة جدَّتُهُ – وُلِدَ سنةَ واحدٍ وستين وستمائة في حرانَ التي كانت تُعَدُّ جُزءاً من بلادِ الشامِ آنذاك، وهي اليوم في تُركيا جُزءٌ منها.
وشيخُ الإسلام هذا لقبٌ يُطلقُ رسمياً على وظفيةٍ في زمنِ الدولة العُثمانية وهي أقضى القُضاة والمُفتي العام، لكن شيخ الإسلام هذا اللقب في زمنِ الإمام ابن تيميَّة – رحمهُ الله – كان ليس لقباً لوظيفةٍ ما في زمانه وهو كان يُطلقُ على مَن تبحّر في العلوم وعرفها كُلَّها من العلومِ العربيةِ ومنها العلوم الشرعية الإسلامية.
وحفظَ رحمه الله القُرآن الكريم ومن السُنَّة النبوية والكثيرَ من أقوالِ العُلماء من الإسلام، وكان متمثلاً بهذه السُنَّة النبوية المُباركة، فكان عالماً يُقتدى به من علُماءِ الهُدى وأئِمَّةِ التُقى الذي لا يُشَّقُ لهُ غُبار ويُهتدى بهِ في اللَّيلِ والنهار على نهجِ النبيّ المُختار عليهِ صلواتُ الله العزيزَ الغفَّار.
ولقد كَثُرَ المُلَّقبون بهذا اللقب على مرّ التاريخ، ولكن الاسم الأبرز بينهُم كان الإمام أحمد بن تيميّة – رحمه الله – رحمةً واسعة، فكان من أسرةٍ عالمةٍ بالدين، فأبوه عالمٌ فقيهٌ، وجده كذلك أيضاً مثلُ أبيه؛ فجدُّه كان عبد السلام بن عبد الله تيمية الحراني، أبا البركات مجد الدين، فقيه سوري حنبلي محدث ومفسر، فهو صاحبُ كتابِ المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقد شرحه الإمام الشوكاني -رحمه الله- في كتابه نيلُ الأوطار من شرحِ المنتقى من الأخبار، وكان الشيخُ جمالُ الدينِ بن مالك النحْوِيُّ المشهور يقول: ألِينَ للشيخ مجد الدين الفِقهُ كما أُلِينَ لداود الحديد، وهو من عائلةٍ كُلُّها حظُّها من العلمِ الغزير، فحفظَ كتابَ الله تعالى الكريم وهو لهُ من العُمُرِ سَبْعُ سنواتٍ.
ففي عصرهِ كان زاخراً بالعلمِ والعُلَماء، وكان منهم أئمةٌ كبار هم المِزّْي المحدث الكبير والذهبي والصفدي الأديب المعروف. والحالةُ السياسية في البلاد في عصره كانت فيها اضطراب.
ثناءُ العُلماءِ الكِبارِ عليه عليهم رحمة الله أجمعين:
قال الإمام الفقيه ابنُ دقيقٍ العيد عن الإمام أحمد بن تيميَّة رحمه الله: ما ظَنَنّتُ أنَّ اللهَ بِقِيَ يَخْلُقُ مِثْلَك.
وقال الحافظ المِزّي عنه: ما رَأيتُ مِثْلَهُ وَلا رَأى هُوَ مِثْلَ نَفْسِهِ، ومَا رأيت أحداً أَعْلَمَ بكتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ، ولا أَتْبَعَ لَهُمَا مِنْه.
ويقولُ الإمام الذهبي -رحمه الله- أيضاً عنهُ: والله لو حلفت بين الركن والمقام على أني لم أرَ مثل ابن تيمية ما حنثت!
ويقولُ الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: لم أرَ مثلَه في الإقبال على الله تعالى، وكان له أذكارٌ يُدمِنُها بكيفيَّة وجَمعيَّة.
وكان إذا صلَّى الفجرَ يدعو بالأذكار ما شاء اللهُ لهُ أن يدعُو، ثم ينصرِفُ لأصحابِه.
وكان يقولُ الإمام أحمد عن نفسهِ رحمه الله: والله إن المسأله تُغلق في وجهي، فأستغفر الله ألف مرة فتُفتح لي.
وإن صعُبَت عليه مسألة يُمرّغُ وجههُ في التُرَاب وهُنا -كنايَةٌ عن كثرةِ سجودِه- كان يقول:
يا مُعَلّم آدمَ وإبراهيمَ عَلّمْنِي.
قال: فأرجع وأكون قد فهمتُ الأمرَ.
هل تعرف لماذا ذلك الأمر؟
لأن القَضِيَّةَ قَضِيَّةُ قُلُوبٍ صَادِقَةٍ مَعَ اللَّه عزَّ وجلَّ. وكانَ – رحِمَهُ اللَّهُ – كثيرَ الاستغاثَةِ بالله والاستعانةِ به، وهي من أرجى الأمورِ عندَ الله تعالى.
وكان حافظاً عجيباً، وهو ابنُ سبعِ سنين، وكثيراً ما يحفظُ أبناءُ المسلمين القرآن في هذا السّنِ، لكن قليلٌ من يفْهَمُه.
وذات مرة كان في البيت مع والده وإخوته وألحَّ عليه والده أن يخرج معه هو وإخوتُه لبُستانٍ، فألحَّ -رحمه الله- على البقاء في البيت، ولمَّا عاد أبوه وإخوتُه للبيت قال له أبوه: كَسَرتَ قُلوبَ إخوتِكَ لولا خرجتُ معنا. فأشارَ إلى كتابٍ في يَدِهِ وكان طفلاً صغيراً، وقال له: يا أبَتِ لقدِ حفظتُ هذا الكتاب. وكان ذلك الكتاب هو جُنَّةُ المُناظِر. وهذا الكتابُ كِتابٌ فقهيُّ لابن قُدامَة الحنبلي يذْكرُ فيه كُلَ قولٍ لأصحابِه على الراجح من الأقوال.
فقال له أبوه: اقرأهُ عليَّ، فقرأهُ عليه عن ظهرِ قَلبٍ، وما وقعت عينهُ على كتابٍ إلَّا حَفِظَهُ، فهو حافظٌ عجيبٌ، ولمَّا سُجِنَ المرَّةُ الأولى كتبَ كتباً صغاراً وكباراً، وكان يكتبُها من حفظِهِ، ويعزو كُلَّ قولٍ لقائِلِهِ رحمه الله. وكان عارفاً بأحوالِ المُسلمينَ مُساعداً لهم ومُسانداً لَهُم مُهتمَّا بقضاياهُم ويسمع منهُم ويستجيبُ لهم.
وكَثُرَّت مؤلفاتُه العِظام بدلائل الأحكام من دينِ الإسلام.
ومن مواقفه المؤثرة رحمه الله:
مواقفه مع الولاة، فقد كانت قوية في النصح، والأمر، والنهي، فمن ذلك مواقفه العظيمة في كسر شوكة الملاحدة، والباطنية كما في وقعة شقحب والكسروان، وموقفه مع غازان حتى وصفت شجاعته بأنها خالدية نسبة إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي اللهُ عنه.
فقد حدث سنة (699هـ) أن ملك التتار غازان قدم إلى دمشق، فخرج إليه شيخ الإسلام واجتمع به وكلمه بغلظة، فكف الله يد غازان عنه، وذلك أنه قال لترجمان الملك غازان قل له: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما عملا الذي عملت؛ عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت.
وجرت له مع غازان وقطلوشاه، وبولاي، أمور قام فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخشَ إلا الله، وحضر قضاة دمشق وأعيانها إلى مجلس غازان، فقدَّم إليهم غازان طعاماً فأكلوا إلا ابن تيمية، فقيل: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس، ثم إن غازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهاداً في سبيلك فأيده وانصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فافعل به واصنع.. يدعو عليه، وغازان يؤمّن على دعائه، وقضاة دمشق قد خافوا القتل وجمعوا ثيابهم خوفاً أن يبطش به غازان فيصيبهم من دمه، فلما خرجوا قال قاضي القضاة ابن الصصري لابن تيمية: كدت تهلكنا معك، ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم.
وقد سجن بقلعة دمشق في آخر حياته، فبقي يؤلف الكتب، ويرسل الرسائل لأصحابه ويذكر ما فتح الله عليه من العلوم العظيمة والأحوال الجسيمة، فقال: قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثيراً من العلماء يتمنونها وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثم إنه مُنع من الكتابة ولم يُترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق فأقبل على التلاوة والمناجاة والذكر.
وقال ابن القيِّم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه- يقول:
إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان في القلعة يقول:
لو بَذَلْتُ مِلْءَ هَذِهِ القَلعَةِ ذهباً ما عَدَلَ عِندِي شُكْرَ هذِهِ النِعْمَةِ
وكان يقول في سجوده وهو محبوس:
اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وقال مرة:
المحبُوسُ مَن حَبَسَ قَلْبَهُ عَن رَبِّهِ، والمأسُورُ مَن أَسَرَهُ هَوَاهُ.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليها وقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَاب) الحديد: 13.
وكان كثير التعبد ومداومة الذكر والأوراد، لا يشغله عن هذا شاغل ولا يصرفه صارف، قال ابن القيم: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إِلَيَّ، وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتخذ هذا الغداء لسقطت قوتي، أو كلاماً قريباً من هذا، وقال لي مرة:
لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لِأَسْتَعِدَّ بتلك الراحة لذكر آخر، أو كلاماً هذا معناه.
وكان يقول: أحللت كل من آذاني، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، قال القاضي ابن مخلوف وكان من أعدائه: ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكناً في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا.
كانت وفاته في قلعة دمشق في سحر ليلة الاثنين عشرين من ذي القعدة سنة (728هـ)، وقد حُمَّ -رحمه الله- سبعة عشر يوماً، وقد قبض في الثلث الأخير من الليل، فاجتمع في القلعة خلق كثير من أصحابه يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرحمن أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين فانتهيا إلى قَولِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر).
وقد اجتمع خلق كثير للصلاة عليه وحزر الرجال بستين ألفاً أو أكثر إلى مائتي ألف، والنساء بخمسة عشرة ألفاً، وظهر بذلك قول الإمام أحمد بن حنبل لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، وقد رئيت له منامات كثيرة صالحة، وصُلِّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد المسلمين القريبة والبعيدة حتى في اليمن، والصين، وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة: الصلاة على ترجمان القرآن.
رحم الله شيخ الإسلام، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.