مهارة الخطاب الإعلامي -من وجهة نظري- هي فن يتقنه الغرب ولم يفهمه العرب بعد.
فلدى الغرب المهارات والقدرات على التواصل الخارجي لتوصيل رسائل محددة ومعينة إلى العالم، بينما يفشل العرب للأسف الشديد في الوصول إلى عقول وقلوب الملايين في العالم.
أين الخلل؟ ولماذا لا نجيد تلك المهارات لكسب نقاش ما في الغرب بالأخص عندما نكون أصحاب الحق؟ لماذا لا نستطيع توصيل رسالة بلغة يفهمها الغرب كما يفعلون هم؟ لماذا كل خطاباتنا ووسائل تواصلنا سواء كانت داخلياً أو خارجياً قائمة على مبدأ "تساهيل رب العالمين"؟
الإجابة على تلك الأسئلة يتطلب الوقوف والتدبر.
فالغرب يستند على خطاب إعلامي -بغض النظر عن محتواه سواء اتفقنا معه أو اختلفنا- على حقائق واقعية مجردة واستراتيجيات ودراسات، فلا شيء عفوي وكل شيء مدروس ومخطط له.
أما نحن العرب، فلا نملك القدرة على توصيل رسالة حتى لو كانت بسيطة، فلا مهارات ولا خطط استراتيجية ولا دراسات لدينا ولا أسلوب خلاق لمخاطبة الغرب بلغة يفهمونها.
وإن تحدثنا، نتحدث بلغة عاطفية إنشائية بعيدة عن الحقائق والواقع.
فهذا هو الفارق بين عالم متقدم يعي ما يقول وكيف يقول ومتى يقول، وبين عالم ثالث لا يعي جيداً فن الاستراتيجيات وآليات التعامل مع الإعلام والخطاب الجماهيري.
وإن نجحت قليل من بعض الدول أو المؤسسات العربية، فتراها تستعين بمستشاري التواصل من الأجانب بتكلفة باهظة جداً، فهو أمر بالفعل يستحق العناء والتكلفة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، نملك الحق في القضية الفلسطينية والتعاطف الشعبي العالمي مع شعب محتل، ومع ذلك هناك القليل القليل ممن يملكون القدرة على الخطاب لتمثيل القضية بلغة يفهمها الشارع الغربي وبأسلوب محترف.
فتجد ناطقين إعلاميين وممثلين سياسيين يتحدثون بلغة إنكليزية رديئة، فلا مضمون ولا فكرة ولا استراتيجية في الخطاب الموجه الذي لا يقنع المشاهد الغربي ولا حتى العربي.
ولكن في المقابل، تجد متحدثين وناطقين باسم الاحتلال الإسرائيلي، لديهم مظهر وخطاب بليغ بلهجات محترفة ورسائل محددة ومدروسة -وإن كانت مضللة- تتناغم مع عقول الغرب. وقد بدا هذا جلياً في الحروب السابقة على غزة، وبرغم ذلك ما زلنا لا نتعلم من الدروس ولا نستخلص العِبَر من التجارب السابقة.
صورة العرب بشكل عام والمسلمين بشكل خاص في الغرب هي أقل ما يقال عنها بأنها سلبية للغاية.
فمع تنامي ظاهرة "الإسلاموفوبيا" بسبب أفعال ما يسمى (داعش) وما شابههم، ومع موجات الهجرة المتنامية التي تأتي من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى أوروبا، يغيب الخطاب الإعلامي العربي الممنهج وتغيب الخطط وآليات الاستراتيجية لمجابهة حملات التضليل والتشويه لصورة المسلمين والعرب.
حتى السفارات العربية في الخارج التي تملك الإمكانيات المادية لا خطط ولا مهارات لديهم لأنهم غير مبالين، فلا تسمع لتلك السفارات صوتاً إلا عند الحفلات وإقامة مأدبات العشاء، إلا مَن رحم ربي.
فمن خلال عملي مع بعض المؤسسات الإعلامية والإغاثية الدولية ودراستي في مجال الاتصال الخارجي، تعلمت كما العديد من الطلاب والمهنيين الذين يعيشون في الخارج أهمية التواصل الخارجي والخطاب الإعلامي.
أدركت أن كل شيء يقال في الإعلام هو مدروس وله خطط مسبقة وبرسائل واضحة (مهما اختلف المضمون)، تعلمت كيف تتم مخاطبة عقول جماهير مختلفة برسائل محددة وبلغة يفهمونها جيداً، كيف يكون مظهرك وأسلوبك عند الظهور على الإعلام، كيف تكون نبرة صوتك ونظراتك وطريقة وجلوسك.
الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما كان عندما كان يلقي خطاباً جماهيراً أو إعلامياً يقف أمام المرآة ليتدرب على الخطاب لساعات طويلة، يفعل ذلك لأنه كان يدرك أهمية وخطر الإعلام والخطاب الجماهيري برسائل محددة وقصيرة، وقد نجح في كسب التفاف وإقناع الجماهير حوله.
أما مع بعض القادة العرب، فالقصة مختلفة تماماً. أذكر أن أحد الرؤساء العرب كان قد أعلن يوماً أنه سيلقي خطاباً جماهيراً متلفزاً في ساعة معينة، بالطبع لم يخرج ذلك الرئيس إلا بعد ساعتين أو أكثر من الموعد الذي تم تحديده للخطاب، وعندما ظهر وبعد انتظار طويل، استمر خطابه لساعات طويلة برسائل متلعثمة وغير واضحة. فلا أعلم إن كان هذا الأسلوب المتبع نابعاً عن جهل في مهارات الخطاب الجماهيري والإعلامي أو أنه استخفاف بعقول الجمهور العربي.
لا أبالغ في القول بأن بعض الناطقين الإعلاميين العرب والسياسيين احترفوا ثقافة "الردح" والتراشق الإعلامي والشتائم وتصيّد الأخطاء، فهي المهارة الوحيدة التي أصبح يتقنها العديد، افتح التلفاز وشاهد بنفسك ما يحدث على القنوات الفضائية أو على منصات التواصل الاجتماعي وستدرك خطر ما أقول.
للأسف الشديد، غياب الرؤية والتخطيط أدى إلى غياب المهارات والقدرات على توصيل رسائل بسيطة على الرغم من وجود الإمكانيات والطاقات البشرية.
نعم، هناك قدرات عربية شابة ومتميزة لديها المهارات والخبرات والعلم والإمكانيات المعرفية على تمثيل قضايانا العربية ومخاطبة الجمهور بطرق خلاقة ومهنية، ولكن هذه القدرات كثيراً ما يتم تهميشها.
كيف لا، وترى تلك الخبرات تدثر بين "فلاسفة من ورق"، فالجميع يفتي في قضايا جوهرية وحتى إن كان لا يعي مخاطر ما يقول.
اندثر كثير من علمائنا المتميزين وكثير من الباحثين العرب والنقاد والساسة المخضرمين وعلماء الدين وغيرهم بين طوفان من أولئك الفلاسفة، فاختلط الحابل بالنابل وأصبح الجمهور العربي -من كثرة الفتاوى- لا يميز بين مَن هو على صواب ومَن هو على خطأ.
مهارة التواصل الخارجي والإعلامي هي فن يجب علينا أن نتقنه، وأتمنى أن يتم التكاتف والعمل على تدريب وتجهيز طاقات بشرية عربية قادرة على مخاطبة الرأي العالم الدولي والعربي بأسلوب مهني وواضح وبمظهر سليم ولغة بليغة محترمة يفهمها الجميع.
علينا الاستفادة من الغرب -ولا عيب في ذلك- في كيفية التعامل مع الإعلام وفي فن الخطابة وفي التخطيط الاستراتيجي. فإذا "أردتم أن تسلموا من شر عدوكم عليكم أن تتعلموا لغتهم"، وليس المقصود باللغة أي التحدث بها فقط، بل وفهم طرق تفكيرهم ومخاطبتهم ومحاججتهم بنفس الأسلوب والنهج.
لقد خسرنا كثيراً، فكفى! قضايانا العربية كثيرة وشائكة؛ لذلك يجب أن نكون قادرين على توصيل رسائلنا وسياساتنا بشكل صحيح وواضح وممنهج وإلا سنظل في أسفل سافلين ومضحكة لشعوب الأرض.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.