المراهقون الكبار

أؤمن بشدة أن فترة المراهقة يمكن أن تكون من أفضل فترات حياة الناس فقط إن أخذت حقها، وانتلقت من مجرد سنوات صعبة كما يحب الأهل أن يفكروا فيها إلى سنوات الفرص والآمال، سنوات يعرف فيها الصبي وتعرف فيها الفتاة بأننا من الممكن جداً أن نمرّ من خلالها دون أن نعاني ودون أن ننكسر

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/16 الساعة 05:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/16 الساعة 05:14 بتوقيت غرينتش

أنا الآن في الثلاثين من عمري، ربما تجاوزت الكثير مشاعر المراهقة التي كانت تسيطر علي في مرحلة ما كما هو الأمر مع كل الناس، أقول كل ّ الناس لأن القضية لها علاقة بطبيعتنا البشرية والبيولوجية. وأنا في الثلاثين بعد أن هدأت نفسي قليلاً بالزواج والأمومة والكثير من القراءة ومطالعة الأفلام يمكنني ربما أن أنظر إلى المراهقين بعين المتفهم قليلاً، الذي يعذر لأنه مرّ بالتجربة وعاش المرحلة.

يمكنني أن أستمع إلى فتاة تقول بأنه لا أحد يفهمها وترفع صوتها ثم تتخرج وتصفق الباب وراءها وأردد في رأسي بأن هذا ليس موجهاً لي أو لمن يخصه الأمر بل هو شيء يخصها هي، يخص مشاعرها وحالتها النفسية وصراعها الداخلي مع هرموناتها التي اجتاحت جسدها فجأة وأنوثتها التي تسللت إلى حياتها دون سابق إنذار، تلك التي بدأ الأهل يعاقبونها بسببها بالحرمان مما كانت تعتاده من أفعال، أو بقوانين جديدة لم يتكلفوا عناء شرحها قليلاً..

أنظر إلى فتيات وفتيان في هذا العمر ينتشرون في الشوارع بعد أوقات الدوام المدرسي أو في أيام العطلات في أسراب يخلو منها أي "راشد"، وحتى في البيوت وخلف الأبواب المغلقة يغلب على ظني أنهم يقضون أيامهم مفردين في غرفهم أمام شاشة حاسوب، أو بين دفتي كتاب، أو على طرف من طرفي محادثة هاتفية تدوم لساعات ليس لها هدف سوى الإحساس بالوجود.. أعود إلى ذاتي الصغيرة تلك وأسأل نفسي ماذا كنت تريدين في ذلك الحين؟ ما الذي كنت تبحثين عنه؟ أعتقد أنني كنت أريد فقط أن يراني من يحبني ويقدرني.. أن أتلقى الحب ممن حولي وأن أعطيه.. كان هذا كل ما أردته.. وأعتقد أن هذا كل ما ييريده هؤلاء الصغار الآن أيضاً، ولكنهم بسبب ما يرونه من صورة واحدة للحب ينساقون وراء الموجود ويعتقدون بأنهم بحاجة إلى تلك العلاقات الثنائية بين الجنسين، يستغرقون فيها ويهدرون طاقتهم للحفاظ على صورتها التي رسمت أمامهم..

نعم أعرف أنكم بحاجة للحب وأنكم بحاجة لأن يقدركم الناس والمجتمع، ولكن من وحي تجربتي التي ليست ببعيدة كثيراً أؤكد لكم أن لأمر لا يُحل بعلاقة "صحوبية" ترفعكم وتنزل بكم، ولا بعهد بالحب الأبدي يتكسر على شواطئ الواقع والعقلانية بعد سنوات.. أذكر أنني مرة كنت أقرأ تقريراً عن العلاقات العاطفية بين المراهقين في أمريكا، قالت النسبة الغالبة من المراهقين بأنهم أحسوا بأنهم مجبرون على الدخول في علاقة جسدية حميمة فقط حتى لا يهزأ بهم أصدقاؤهم، وأن كل ما أرادوه هو المرافقة وبعض العاطفة وربما قليل من القبلات "البريئة". ولم يريدوا أن يخوضوا تلك التجربة مبكراً ودون نضج عاطفي كافٍ. لكن أرادوا أن يُقبلوا ويكونوا جزء من المجموعة ففعلوا.. لا ليس للأمر علاقة بالحرية الشخصية ولا الحب الذي يتفوق عى كل المصاعب، لكنه سجن الجماعة.

ثم دخلنا عصر الفضاءات الوهمية، أصبح الأمر أكثر سهولة، أن نصل إلى عدد أكبر، ونسترعي اهتمام أناس أكثر، فتيات وفتيان يضيعون في كم العبارات الفارغة والمشاعر المؤقتة، تعليق يُقال على صورة ثم يختفي مع نهاية الأسبوع، حوار يتم تبداله في رسائل خاصة ثم تتراكم فوقه الرسائل مع نهاية اليوم.. أو ربما هي رسالة واحدة تبنى حولها الأحلام والمشاريع حتى إذا جاء المساء انتهى كل ذلك لأن الفتى غير حالته الاجتماعة إلى (in a relationship) غالباً ما تكون من طرف واحد. لماذا كل هذا؟ لا ليس تفاهة ولا قلة دين كما يحب الناس أن يعلقوا بسهولة.. إنه الفراغ، إنه الاحتياج .. والكثير من العاطفة المعلقة بين السماء والأرض لا تجد لها مستقراً.

أؤمن بشدة أن فترة المراهقة يمكن أن تكون من أفضل فترات حياة الناس فقط إن أخذت حقها، وانتلقت من مجرد سنوات صعبة كما يحب الأهل أن يفكروا فيها إلى سنوات الفرص والآمال، سنوات يعرف فيها الصبي وتعرف فيها الفتاة بأننا من الممكن جداً أن نمرّ من خلالها دون أن نعاني ودون أن ننكسر، ودون أن نحس بالهوائية. فقط المطلوب الكثير من الحب، والكثير من الفهم، والكثير من التقدير، وتحميل المسؤولية لهؤلاء الوافدين الجدد إلى أرض الكبار..

نعم هم يريدون تحمل المسؤولية لكنك مازلت تعتقد أنهم لا يفهمون، غير قادرين على القيام بما هو أهم من النجاح في الامتحانات. أغلب الأمهات لا يسمحن لبناتهن في سن المراهقة وأكبر ربما من تحمل أي مسؤولية حقيقية، يجب أن تقوم الأم بالإشراف على كل حركة، كل خطوة، وكأنها تقول لها أنا لا أثق بك.. ولكن تلك الأم نفسها لا تعير ابنتها أي اهتمام على المستوى العاطفي فتتركها تتخبط بحثاً عنها وعن شيء من التقدير في الخارج..القضية ذاتها مع الآباء وأبنائهم.. الكثير من الانتقاد، من الشكوى، من عبارات تنم عن عدم الرضى وخيبة الأمل..

ما يتكرر هو أن العديد منا يظل حبيس تلك السنوات، لا يستطيع الخروج من تلك الدائرة المفرغة، يظل يلهث وراء بريق الإعجاب المخادع، ولا يهدأ أبداً إلا بأن يستمر بالتحصل على الاهتمام غير المستحق، والتقدير المبالغ فيه، فإذا ما وصل الثلاثين، والأربعين، وطالبه الناس بأن يعاملهم ويعامل نفسه بما يتطلبه عمره من حكمة، فقد عقله وأخذ يهاجم من حوله، يرى فيهم مرة أخرى أنهم لا يقدرونه ولا يعطونه حقه، أنه جيد ورائع وجميل، ولكنهم يغارون منه، أو ربما يحقدون عليه؟ لعلهم يريدون له أن يتخلى عن طفولته وشباب نفسه؟ ولكن الحقيقة أن تلك الطفولة التي يظن أنها فيه ليست سوى مراهقة متأخرة، تمحور حول الذات، ورفض للمسؤولية..

المعضلة يا أصدقاء أننا لا نستطيع أن نلوم المجتمع والمدرسة والأهل إلى الأبد، فنحن ما أن وصلنا الخامسة والعشرين من العمر حسب ما أرى، أصبحنا نستطيع أن نتخذ قراراتنا بكل عقلانية وحكمة إن أردنا وعزمنا، ولكننا كثيراً ما نتخلى عن قدرتنا هذه ونأخذ الدرب السهل، نستمر في السير وفق ما عرفنا ولا نحبذ التغيير. لا نريد أن نكبر كما يقولون، نريد أن نظل الصغار المدللين إلى الأبد..

ويزيد الطين بلة أن تحيط بنا كل عبارات التنمية البشرية التي تردد على مسامعنا أننا يجب أن نتقبل أنفسنا كما هي، وأننا يجب أن ننظر إلى الحياة على أنها رحلة نستمتع بها، وأننا يجب أن لا نكدر على أنفسنا فلا شيء يستحق.. وكلها عبارات تبدو صحيحة وصحية للتطبيق ولكنها في الواقع خادعة، فكل منا يفهمها وفق ما يريد لا كما تتطلب الحقيقة. علينا أن نتقبل أنفسنا التي خلقها الله وأنفسنا الباحثة عن الحق، لا أنفسنا التي تتبع الهوى، علينا أن ننظر إلى الحياة أنها رحلة تأخذنا إلى الموت وكل خطوة سنحاسب عليها، وعلينا أن نفهم أن هناك الكثير مما يستحق..

كلنا نحارب موروثاً كبر معنا، مشاكل ربما بعض الأزمات، والأحداث المأساوية، ولكنها ليست أعذاراً حتى نتوقف عن محاولة التحلل من أثقالها، ليس فقط من أجل الآخرين، بل من أجل أنفسنا، حتى لا نخطئ في الاختيار، ولا نلهث وراء ما نريد فقط لأننا نريده الآن، وننسى أنه سيقف في وجه ما نحتاجه لاحقاً..

هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد