المجانين في نعيم‎

كانتْ رأسها على كتِفي وأصابعُها في كفّي، وفي أذُنيَّ يعلو صوتُها الحادي تدندنُ أبياتاً أهديتُها إياها في ذكرى حبّنا الستين، نعم.. تخيلتُ أيضاً أننا بلغنا من الحُبٍّ ستين عاماً وكتبتُ في ذكرى الخيالِ خيالاً.. ستونَ عاماً، زار الحُبُّ أقواماً وتركَ الحُبُّ أقواماً، ولكنْ.. يا معذّبتي، مذْ أن زارنا الحبُّ، بفضل الله قد قعدَ، نما معَنا وما قاما؛ يعيشُ الحُبُّ في قومٍ، لأجلهِ عاشوا صُوّاماً..

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/15 الساعة 09:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/15 الساعة 09:15 بتوقيت غرينتش

على صخرةٍ يستوي نصفُها ويتعرجُ النصف الآخر، أدنى إلى البحرِ من أخواتها المتراصّاتِ على جانبِه في ترتيبٍ عَفْوي يؤكدُ على جمالِ الأشياءِ حين تتناغمُ بلا كُلفة.

القمرُ أبيض مكتملٌ لا تظهر نُتُوءَاتُه كطبيعةِ كلّ شيءٍ نراهُ من بعيد، في صفحةٍ صافيةٍ تعكسُ بوضوحٍ وجوهَ المحبوبين الذين جمعتْهم وإيايَ السماءُ حين فرقَتْ الأرض بيننا.

تتصاعدُ أمواجُ البحرِ لتتمردَ على صخرتَين أدنى إليه من صخرَتِي؛ فيوقظني الماءُ من حالة الخيالِ التي كنتُ أحياها ولا يعلمُ أنني غارقٌ في بحرٍ أعمقَ منه، فلم يزِدني اضطرابُ موجاتِه الهوجاء غير أنني حولتُه إلى فصلٍ جديدٍ منْ فصول الروايةِ التي تدورُ بوجداني، مُضفياً على السهرة اللطيفةِ -مع قمرين في الآن ذاتِه وبحرين في الوقتِ نفسِه- ضحكةً متدلِّلةً تنظرُ إلى ملابسي التي بلّلتْها المياهُ في شعورٍ بريءٍ بالطفولةِ الساخرة.

الضحكةُ كانتْ لمحبوبَتي التي أجلستُها بجواري على نصف الصخرة المستوي، الهواءُ جميلٌ وهي تستحقُ أن آخذها معي إلى هنا؛ فأنفاسُها المتهدهدةُ ليستْ حِكراً على الأوقاتِ الصعبةِ وحدَها، كانت تتهدّجُ معي حين كان قلبي يخرجُ من فؤادي في ليالي الملاحَقةِ وأنا أسلُك الشوارعَ في منتصفِ الليلِ هارباً من قدَرٍ كان على المساكينِ كتاباً موقوتاً، ولما حانَ وقتُه كانتْ أنفاسُها تستغفرُ معي وتصرخُ معي، وتصعدُ إلى عينيّ فتزيل غمامتهم السوداءَ من عليها لتقول لي: انظر! أنا معك، ولو كنتَ وحدكَ لَما رأيتَ وجهي الأبيضَ رغم سوادِهم ولَمَا أحاطكَ طيفي رغمَ قيودهم، أنت سجينُ حبّي، وحاشايَ أن أرحّلكَ إلى سجنٍ غيري، حبستُكَ بداخلي، فإن خرجتَ منّي.. حبسوك.

كانتْ رأسها على كتِفي وأصابعُها في كفّي، وفي أذُنيَّ يعلو صوتُها الحادي تدندنُ أبياتاً أهديتُها إياها في ذكرى حبّنا الستين، نعم.. تخيلتُ أيضاً أننا بلغنا من الحُبٍّ ستين عاماً وكتبتُ في ذكرى الخيالِ خيالاً.. ستونَ عاماً، زار الحُبُّ أقواماً وتركَ الحُبُّ أقواماً، ولكنْ.. يا معذّبتي، مذْ أن زارنا الحبُّ، بفضل الله قد قعدَ، نما معَنا وما قاما؛ يعيشُ الحُبُّ في قومٍ، لأجلهِ عاشوا صُوّاماً..

ننصرفُ بعدما قضَيْنا ليلةً تليقُ بقدسيةِ كلّ شيْ بيننا، السلم الكهربيّ يعملُ وخالٍ من المتزاحمين عليه، لكنَّك لا تُفضلينه.. أصعد السلَم العاديَّ، وفي داخلي أربعة أرجلٍ تصعدُ الدرَج المؤدّي إلى موقفِ الباصات. بطاقةُ المواصلاتِ لا تدفعُ إلا لواحدٍ وتصدرُ صوتاً يسمحُ بعبورِ الأول وترفضُ -بصوتٍ آخرٍ- إن وضعتَها ثانيةً على الماكينة، لكنها تُحدثُ صوتاً في الحالتين.. لا يهمّ، أضعها مرتين ويتوحدُ في سمعي الصوتان، فلستُ وَحدي لأضعها مرةً فتسمح بالعبور لي فقط، وأنا لا أستثني طيفَ محبوبتي في أيٍّ من لحظات يوْمي.. أضغط المرةَ الأولى مبتسماً: تفضلي، ثم أتبعها بضغطةٍ أخرى لأعبر، ولا يفهم الجميعُ سِرّ الضغطتين غيري.

الخَيالُ أصدقُ من الواقع؛ لأنّ بالواقعِ عواملَ كثيرةً تتحكمُ فيه، تمنعُك من لقاءِ حبيبٍ سكَنْتَهُ وتحرمُك من حُضنٍ طالما اشتقتَ إليه، يفصلُك واقعُ الزمانِ عن توديعِ جدتك قبل موْتها بسبب ساعَتين قضيتَهما في الطريقِ قبل أن تصلَ إلى المُستشْفى، لتجدَ سريرَها خالياً والأجهزة بلا جسدٍ تنخرُ فيه بقتْلها الأنيق لا أكثر. ويفصلُ واقعُ المكانِ بسلكٍ شائكٍ بينكَ وحبيبٍ لكَ لم تتخيلْ يوماً أن يكونَ لزيارتِه موعدٌ ومكانٌ هم مَن يختارونه لكما في الشهرِ مرّةً أو مرتين.

واقعُ الجغرافيا يضعُ بينكما ألفَ ميلٍ وبحراً وثلاثة دُولٍ وخمسين ولاية، وواقع التاريخِ يمنعُك من لقاءِ صاحبةِ الصوتِ المفضلِ لديْك ويفصل بينكما مائة عامٍ ومذياع، ويمنعُك كذلك أن تكون ممن استقبلوا النبيّ بجريد النخلِ في المدينةِ أو أن ترى العذراءَ جالسةً في ساحةِ بيتها بالناصرة شمال فلسطين.

الخيالُ حُرٌّ من كل قيدٍ ومتمردٌ على الزمان والمكان، على الجاذبية والقصور الذاتي، على النظريات وناموس الكون، إنه العالَم الأصدقُ لأنكَ وحدكَ المتحكمَ فيه؛ فتلقى مَن تحب في المكان الذي تحبّ والوقتَ الذي تحب؛ لذا فالخيال قبلةُ المحبّين إذ لا أحدَ يُكرَه على ما يَكْرَه، ولا أحدَ يُجبَر على قَبول ما يكسرُه، ولا أحدَ يلقَى إلا من يَجبرُه.

بالخيالِ وحدَه.. تُخرجُ محبوبَك من سِجنِه، وتكونُ وحدَك في استقبالِه، تأخذه إلى رحلةٍ في النيلِ عَصراً، وتتناولان الغدَاء على ضفافِ البوسفورِ وعيونُكما مرآةٌ لمشهد الغروب، تغسلان أيديكما في سبيلٍ قديمٍ بإحدى شوارع إسبانيا، وتتوضآن لصلاةِ المغربِ من زمزم، ثم تصليانه معاً في المسجد الأقصى.

لا شيْءَ أجملَ من أن تخلُقَ لنفسِك عالَماً أنت حاكمُه مع ساكنينَ تحبّهم في مدينةٍ أنتَ بانيها على النحوِ الذي تختارُه أنتَ.

لو لم يكُنْ للخيالَ في حياتنا مكانٌ لاكتفى الله بجعلِ فصوصِ عقولِنا مرتبطةً بما ترى وتعلمُ وتفهمُ فقط، ولَما جعلَ للقلبِ وظيفةً غير مَدّنا بما يلزمُ من دمٍ وأكسجين لاستمرارية الحياة، بمعناها الماديّ لا الروحيّ.

تخيّل كل لقيا طال انتظارُها ولم تأتِ، وكل مؤنسٍ استوحشَ قلبُك بعدما رحل، وكل روحٍ تركتْك جسداً هامداً تغالبُ الواقع وحدَك؛ فيغلبك.

تخيّل واشكر الله أن لا أحدَ يرى الخيالَ غيرَك، تخيّل حدّ الحياةِ وحدّ الموتِ وحد الجنون.. فلا أحد في الدنيا أشد عذاباً من غبيٍّ يحبسُ نفسَه في جُمجمتِه، ولا أحد أكثرَ راحةً ممن بنى لنفسهِ جنّةً كُلما جَنَّ عليهِ الواقعُ وجنى.. جُنَّ؛ فجنَى النعيم من أخصب أراضيها.
يا صديقي العاقل.. المجانينُ في نعيم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد