جبر الله خاطري به.. فقد مرت أيام على عودتي، فكرت كثيراً وترددت أكثر، هل أكتب للعلن عن تفاصيل الأيام الستة الماضية؟
كنت أترنح بين خوفي من الوقوع في شِباك الرياء وبين تلهفي أن أخبر كل مَن حولي بما رأيته وعايشت تفاصيله، ولكني قررت أخيراً أن أكتب متجرداً غير مرائٍ.
لقد خاض الملايين من المسلمين تلك التجربة، ولكني خضتها بكل جوارحي، وسافرت وتعمقت في كل تفصيلة صغيرة في خطواتها، وغمست روحي في عالمها الفسيح المليء بالعبر والمعاني والمخفيات عن ظواهر تلك العبادة العظيمة.
الحج.. الاختبار المتكامل لكل جوانب النفس البشرية، الطريق إلى الله المُعبد بالصعاب والمشقات، فتبذل فيه مادياً ما يجب أن تبذله فقط لله، فتختبر مدى قدرتك على أن تتيقن بأن مالك كله لله، ثم تبدأ في الاختبار الجسدي العظيم، ومدى قوة تحملك لكل المتاعب والألم والمشقة فقط لله، حينها ستشعر بأنك أوتيت قوة لم يؤتَها أحد من قبلك.
وكل ذلك يتم في إطار محاكاة تفصيلية مبسطة ليوم عظيم تشخص فيه الأبصار وتشيب منه الصغار، إنه يوم الحشر العظيم.
فملابس الإحرام تلك التي تغطي بها جسدك هي الكفن الذي سنخرج به من القبور يوم يحشر الخلق كلهم سائرين في الطريق إلى الله.
الزحام شديد، والأنفاس تتشابك، والعرق يتساقط كالمطر، والشمس أقرب إلينا من كل واقٍ منها، لا أحد يكترث بأحد سوى الله، فهذا يوم عرفة محاكاة مبسطة ليوم الحشر العظيم، حتى نتذكر مدى هول الموقف ونستفيق من غفلتنا.
تختبر فيه مدى قدرتك على ترويض نفسك وإخضاعها لله، والالتزام بما يجب الالتزام به، والتسليم الكامل لعظمته، ترى فيه جيداً المعنى الكامل الحقيقي لكلمة (الحب في الله)،️ والمعنى الأعظم لأخوة الدين والرابط الإلهي المقدس بين قلوب يجمعها فقط التوحيد بالله وحده، فهذا مَن عرفته منذ يومين فقط يقف يبحث عنك من بين ملايين البشر المحتشدين في الطريق إلى الجمرات خوفاً مَن أن يلقاك مكروه وهو ليس بجانبك.
فتجد كل معاني الحب والأخوة والبذل والإيثار على النفس فقط في الله ولله، تتلقى دروساً عظيمة وتدريبات نفسية وإيمانية ونظامية وحياتية مكثفة، وكأنك ذهبت لمعسكر تدريبي متكامل.
في الحج تتعرف على نفسك من جديد وتسافر في أعماقها، وتكتشف كل التفاصيل الغائبة؛ لتُجبر الكسور، وتُضمد الجروح وتلملم المبعثر وتُقيم المعوَج، وترمم المتهالك وتستبدل الفاسد، ثم تعيد ترتيب كل أفكارك من جديد، وترى الأشياء بوضوح، وتضع كل شيء في مكانه الصحيح، فهناك تعيد بناءك بما يجب أن تكون؛ لتبدأ بسطر جديد في صفحة لم يمسها بعدُ قلم، وهذا لن يحدث إلا بالصدق المُطلق مع الله.
في الحج ترى جيداً كم هذا الدين عظيم بقدر لا توصفه كلمات العظمة، يجاورك كل الأجناس والأعراق يجمعهم التسليم لله، والإقرار بوحدانيته وعظمته وقدرته.
كلنا مسلمون.. كم هذا الدين عظيم وسيظل عظيماً.
كلمات لا تحصى بداخلي، لا يسعني براح قولها، ولو كرست ما تبقى من عمري لأصف لكم ما وفيت، فمن ذهب وعاد وكأن شيئاً لم يحدث، فقد خسر كل شيء.
رزقكم الله إياها.. فقط اطلبوها بصدق ويقين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.