أقف وحدي بمنتصف الطريق وسط صخب وضجيج السيارات والمارة، أشعر كأني لست على قيد الحياة أو أنني ربما لا أبالي، أصواتهم تخرق أذن الأصم، لكني لا أسمع حرفاً منها لأني في عالم آخر، عالم أسكنه وحدي، عالم موازٍ لعالم العشق والهوی، لكن الفارق أني المحب والمحبوب في الوقت ذاته.
اعتزلت البشر لا أتذكر منذ متی ولا أعرف السبب حتی، كل ما أعرفه أنني فضلت معاناة الوحدة علی معاناة القرب من البشر وطعناتهم، أصبحت أكثر اعتماداً على ذاتي، لا أحتاج لأحد ولا أظن أن أحدهم يحتاجني، لكن هل سأظل هكذا العمر بأكمله؟
ماذا عن الحب؟! هل سأختار التخلي عن وحدتي لأجله في أحد الأيام، أم أن سيد الموقف حينها سيكون الإجبار وفجأة أقع في حب أحدهم دون مقدمات ودون رغبة في ذلك أصلاً؟! أقلب بأناملي صفحات السوشيال الميديا وما كُتب عليها من قصص الحب والغرام، البشر يشاركون الجميع أدق تفاصيل علاقاتهم العاطفية فيجمعون بها آلاف الإعجابات والمشاركات، والكل مغرم بتلك القصص ويتمنى قصة غرامية مماثلة.
الكل يحقد ويحسد وأنا بين كل هذا وذاك لا تستهويني تلك القصص مطلقاً ولا أشعر عند قراءتها بأي نوع من الحنين والرومانسية بل فقط يثير ذلك رغبتي الشديدة في التقيؤ إذ اختلفت معايير البشر ودلالاتهم للحب الصادق حتى تطور الموضوع لمنشن عند القلب على الإنستغرام وكلام رومانسي مبتذل على تويتر وبوست سخيف عن قصة كفاحهم من أجل الحب على الفيسبوك، وكأنها باكيدج نختارها قبل اختيار فتى الأحلام.
فهل تختارين الرجل بالإنستغرام خاصته أم رجلاً وبصحبته بوستات فيسبوكية عن قصص كفاحه معك؟!
في الواقع كل ما أفكر به حال قراءة كل هذا الهراء كيف تحول الحب من شيء نقي بريء إلى شيء سخيف مبتذل هكذا؟! ولماذا أصبح مفهوم الحب يتمحور حول الهدايا الأكثر، والمفاجآت الأروع والكلام الأكثر رومانسية! وكأنها صفقة كُتب عليها: "للأغنياء فقط"، والأهم من كل هذا وذاك ما الفائدة التي تعود على البشر من مشاركتهم كل تفاصيل حبهم معنا؟
أنا أؤمن بشدة أن أنجح العلاقات العاطفية هي علاقات لا نعرف نحن شيئاً عنها؛ لأن أصحابها على أشد يقين أن حبهم ليس مشاعاً للجميع، وتفاصيلهم الصغيرة ملك لهم وحدهم.
لكن ماذا تعني كلمة "حب" من الأساس؟! فاجأني أحدهم بذلك السؤال منذ عدة أيام وسط حديثنا عن الحب، الأمر الذي لم أجد به صعوبة أبداً، لكني وجدت صعوبة بالغة وليست بعادية في إيجاد مفهوم أو تعريف واضح وصريح للحب، تعقد لساني للحظات وربما لدقائق، وحين انفرجت شفتاي أجبت بأني لا أعرف معنی الحب من الأساس، ولا أعتقد أن هناك عدة كلمات أو حتی جمل يمكنها أن تصف ذاك الشيء الأسطوري، ليس لأنه أكثر تعقيداً من كل الجمل والكلمات الموجودة علی سطح كوكبنا.. كلا، بل لأنه أكثر بساطة! وبما أنه ليس للبساطة وجود بين البشر، تحول الحب عندهم إلى شيء قميء يتاجرون به أو يشغلون أوقات فراغهم به لا أعرف شيئاً عن هويته، لا يمكنني تعريفه ولا أتمنی أبداً أن أقع فيه.
وأما عن الحب الأسطوري فهو بسيط حد الكمال تماماً كنسمات الهواء في فصل الصيف، تلك التي تهب وسط حرارة الصيف ورطوبته فتتخفف من وطأتهم وتضخ البهجة في نفوس البشر حتی لو لبضع ثوانٍ ثم تمضي لحال سبيلها فتترك أثرها الطيب في النفوس.
وإنه لشيء مثير للعجب أن تجد البشر يخلطون المفاهيم بين الحب والإعجاب والتعود ولعب العيال، فكأن كل شيء أصبح حباً، أصبحت "أحبك" تقال أكثر من صباح الخير أو عوضاً عنها فإحداهن تطلق على أحدهم محبوبها؛ لأن رائحة البرفيوم خاصته تثير إعجابها، وأخرى تعشق أحدهم؛ لأن أسلوبه في الكلام لبق وجذاب، وأحدهم يخبر أنثاه بأنها الأولى والأخيرة في حياته، وعقب شهر واحد يُنهي العلاقة؛ لأن كل شيء قسمة ونصيب وبسرعة يحب صديقتها؛ ليعيد على مسامعها نفس الأسطوانة المشروخة، وفي النهاية يؤمن بشدة أنه أحب كلتيهما؛ لأن قلب الرجل يسع من الحبايب ألفاً.
وللخيال الواسع دور كبير لا يخفى أثره في الحب، فهناك من يفسر كل شيء مقصود كان أو غير محسوب على أنه حب رغم أنها كلها مسائل عادية تحدث بين البشر كافة كالمجاملات والسلامات والهدايا البسيطة التي يُهادي بها البشر بعضهم البعض، ولكن الفراغ العاطفي دوماً يعطي للأمور حجماً أكبر من حجمها الطبيعي، وتبدأ الأحلام التي تتحطم في النهاية على صخرة الواقع طبعاً لأنه من البداية لم يكن هناك حب من الأساس.
أما عن الإعجاب فهو شيء طبيعي نمر به أجمعين، قد تعجبك تنورة إحداهن أو طلتها الأنثوية، حياؤها أو تفتّح عقلها، وقد يعجبِك خفة دم أحدهم أو جدعنته في بعض المواقف أو حتى عينيه الزرقاء، لكن هذا لا يعني مطلقاً أنه أو أنها ستصبح شريكة الحياة المستقبلية، وفجأة نبدأ بالتفكير في التبات والنبات والصبية والبنات!
كلها صفات جميلة ولو اجتمعت لكانت أجمل وأجمل بالطبع لكن الحب لا يقاس بالمسطرة، الحب ليس قراراً من الأساس ربما في الخامسة عشرة من عمري كنت أظنه قراراً، وبدأت بالفعل أرتب وقتها مواصفات فتى أحلامي الخارقة، فكنت أتمناه مثقفاً ومتعلماً ورومانسياً وحنوناً وأنيقاً وجدعاً وجذاباً وهادئاً وخفيف الظل والدم وسوبرمان، ثم بعدها بدأت تقل تلك المواصفات تدريجياً؛ لأني أدركت أنها ليست مقياساً من الأساس، وليس من الضروري أن مَن يمتلك تلك الصفات سيصبح شريك حياة أسطورياً، حتى بلغت العشرين من عمري ووجدت أن سؤال "ما هي مواصفات فتى أحلامك؟" هو قمة المراهقة، وأن كل الصفات الجميلة لا تستحق منا أبداً الحب، بل فقط يكفيها الإعجاب.
وأما عن التعود فهو أي مشاعر نتجت فقط عن العِشرة والمودة وكثرة الكلام والأحاديث، وهي في حقيقتها مشاعر مزيفة خلقتها العِشرة، لكنها بالأساس ليس لها وجود، وكأنك أحببت أحدهم لأن ليس أمامك شخص سواه.
لكن الحب ليس هذا ولا ذاك، الحب ليس كل ما فات، وإحقاقاً للحق أنا لا أعرف معاييره أو صفاته بالتحديد، ولا يمكنني حتى الجزم أبداً بحقيقته أو وصفه في عدة أسطر أو حتى مجلدات، لكني مؤمنة باختلافه عن كل هذا الهراء، وكذلك مؤمنة أن الحب الصادق يصنع منا أشخاصاً أقوى ذوي رؤية أفضل للحياة وشغف أكبر لكل شيء حولنا، وكذلك يزيدنا تسامحاً ورِقّة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.