الوحدة مرض قاتل، الوحدة مكان لا بد منه من أجل الرجوع إلى الذات ومراجعتها، على الإنسان الولوج إليها بين الحين والآخر حتى يتمكّن من قراءة نفسه على مهل، يجلس الإنسان وحيداً يتأمّل الوجود، يتراجع عن أمور بقيت عالقةً لديه وبين يديْه، فالحياة لا تتوقف، ولا يمكن أن تتوقف، هي مستمرة سواء شئنا أم أبينا.
أحياناً ولدى بعض الشعوب تصبح الوحدة حقاً مقدّساً للمواطن، عندما تتحول مشاعر شعب بأكمله إلى عملية مختصرة بخيارات "النسخ – اللصق"، عندها فقط تصبح الوحدة حلماً هارباً لا يناله سوى طويل العمر؛ إذ الأفراد على اختلافهم يحيون حياة أصيلة عندما تحمل بين ثناياها مساحة حب واطمئنان نابعة من قلوب المحيطين بالإنسان نحوه؛ التحية التي ترقب الإنسان ما هي سوى لغة يحاول الفرد الاستئناس بها، والرسالة التي تحمل إليه الود ما هي سوى متنفّس يجعله يجدد طاقاته الحيوية، إذ الإنسان يبقى في حالة الضجر والخمول عندما يستهلك مشاعر (sentimenti) منتهية الصلاحية وخالية من كلّ أمل وصدق؛ من الصحراء أنامل تأبى الخنوع، مهما حلّ بها فهي تسير وفقاً لمسارات كثيرة، تؤدي صلواتها أمام كافة المجامع، من أجل هدف واحد ألا وهو: المصداقية.
فلا عجب من نزول الأرواح إلى مهابطها بشكل خاص، فهي الوحيدة التي يمكنها تفهّم ما الذي يحدث من عوارض وأسباب.
لدى سكان الغرب أقلام لا تيبس، منذ زمن بعيد وهي تخطّ الأحداث بشكل شاعري جذاب، تطوّرت الأزمان وبقيت الأقلام هي الأقلام، تأججت الأرواح اتقاداً أمام ما يشوبها من فهم واستفهامات، لكنّ الجميل فيها بقي حاضراً، روح الكلمة ومعانيها بقيت ماثلةً أمام كل عقل وكافة الألسن، فما زادها هذا سوى بهاء على بهاء.
ما أجمل زمن الكلمة! ومَن لا يقدّرها حق قدرها لم يعِش، ولن يعيش، إنّ لها مكانة الروح بين الأمم، ومكانة العرّاب بين السلطات، ومكانة الريشة في الفنون والثقافات، الكلمة هي الدين الأوحد لدى كافة الحضارات، يمكننا النبش في قبور أي حضارة شئنا، منذ القرون الغابرة وحتى الآن، سنجد نفس التكوين وذات الاتجاه، نحو: الكلمة.
تصبح الكلمة فكرة بالمعنى الذي يتوحد معها، وبهذا تكوّنان الجلال في أطرافه الممتدّة على طول الكون وعرضه، يتمدّد بتمدّد الكون عينه؛ لتصبح معلقات التاريخ وأسر المحبة أكثر وضوحاً للإنسان؛ الكلمة بمعناها تعطي شعوراً فيّاضاً، ينساب ليصبح أكثر قرباً من التحديات التي بإمكانها صناعة "الثقة" بين الإنسان وروحه من جهة، وبين أفراد الأمّة الواحدة من جهات عديدة غيرها؛ تنمو المشاعر بين توق للشعيرة وحبّ للحياة ببذر الشعير، هي حالة تتأصّل فيها السماء وروحها بالأرض ومادتها، هي صورة لبقاء كنف السرّ الوجودي في وجوده خالصاً، وعلى أساس كهذا ينتاب الإنسان نوع من الراحة، من صفاء الذهن نحو ما هو قابل للتحقّق بلا مبالاة بغير ذلك أبداً، وهنا يموت هرقل في حضرة اللغوس.
الكلمة (la parola) هي فكرة تصبح شعوراً بإيمان يغلّف معقولية المعنى، لا يمكن للإنسان أن يتجاهل الطاقة الفكرية لأية فكرة مهما كانت، ومهما كان بناؤها؛ لأنّ أسرى الجهل ما هم سوى "كفّار" بالأفكار، وهذا بالذات ما يجب على البشرية الانتباه إليه؛ كلّ شعور له من القداسة والحصانة ما يجعله ينصّب ذاته وبذاته ملكاً سيّداً على ذاته عينها، وما الحياة (la vita) سوى كلمة، وما الكلمة سوى حياة، والرابط بينهما هو الشعور المتألّف من كافة أطياف التكوين الفردي للبشر؛ إذ لا يمكننا تصوّر عالمنا من دون الكلمات، حتى العالم القديم حمل إلينا ما كان عليه الأسلاف عبر ما خلّفوه لنا من كلمات ومشاعر ومقدّسات، والكفر بها هو كُفر بالحياة، وكُفر بالإنسانية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.