وطني الدُّمى قراطيّ

أذكرُ هنا تلكَ التي تفتخرُ بأنّها رَمَت بجوازها في "البالوعة" -أكرمكم الله- غير مصدقةٍ بأنّها تخلّصتْ منه للأبد. أو ذاكَ الفنان الذي قال إن بلده لم يقدم له شيئاً، وإنَّ كلّ الامتنان والحب للبلدِ الذي يعيشُ فيه الآن.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/08 الساعة 04:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/08 الساعة 04:11 بتوقيت غرينتش

لا أُخفيكم سرّاً أنَّني أعاني مِن حساسيةٍ مُفرِطة تُجاهَ كلِّ مَن يربط حبَّ الوطن بحبِّ الملك أو القائد أو الحاكم أو الرئيس، أو مَن هُم في سُدَّة الحكم.. يختزلونَ الوطنَ الكبير بصورةٍ له يضعونها كخلفيةٍ لهاتفهم، أو يحملونَها في المسيرات، ثمَّ يسجدونَ لها شكراً وإعجاباً وتقديساً، ولا يترددون في الهُتاف لِمَن يجلسُونَ على قلوبنا: "بالروح وبالدم نفديكُم"، ثمَّ إذا ناقشتَهم في غلاءِ الأسعار، وتفشِّي المحسوبية والرشوة مثلاً، أو في الامتيازاتِ التي يحصلُ عليها أبناءُ الذين يفدونَهم "بالدم والروح"، يُهاجمونك مباشرةً بتهمةٍ جاهزة قائمةٍ على أنّكَ تريدُ الفتنة، وأنك مِن دُعاة الانقلاب، ويتباهَوْن أمامكَ بوطنيّتهم المزيّفة.

فهم الذينَ يتحمَّلون كلَّ مآسي الوطن كرامة لعينِ القائد، ثم لا يملُّون من صَدْعِ رؤوسنا بالمقولة الأشهر: "مَنِ البديل؟" وكأنَّ الله عزَّ وجل لم يخلق بشراً أكفاء يصلحونَ لهذا الكرسيّ سواهم.

ومعَ ذلك كانَ الوطنُ بالنّسبةِ إليَّ تلكَ البقعة المقدسة الطّاهرةَ مِن الأرض، أحملُ جيناتِهِ في قلبي أينما حللتْ، ولم يحدُث أن أنكرتُ ذلكَ يوماً، وأرفضُ أن يُزايدَ أحدٌ في حبِّهِ على أحدٍ آخر.

منذُ فترةٍ طرحَ الرحَّالة السعوديُّ "سعود العيدي" مجموعةً من الأسئلة في حسابِه على "سناب شات"، سَبَقَ وشغلتني لفترة. أسئلة تتعلقُ بالوطنِ والانتماء: ماذا يعني لكَ الوطن؟ وما مفهوم الانتماء بالنسبة إليك، ولو كانتْ والدتكَ من وطنٍ آخر غير وطنك الذي تحملُ جنسيّته، فَإلى أيِّ بلدٍ سيميلُ قلبك، وهل حدثَ وشعرتَ بأنَّ لكَ عدّةَ أوطانٍ تنتمي إليها ومجموعةَ أعلامٍ تودُّ لو أنّكَ ترفعُها معاً، وهل توقفتَ لدقائق عن الإجابة، عندما يُطرَح عليكَ سؤال: أيُّ بلدٍ تحبُّ أكثر؟ البلد الذي نشأتَ فيه أم الذي قَدِم والداك منه؟

بمعنى أنّكَ لو كنتَ من "مُزدوجِي الأوطان" إذا صحَّ التعبير، أو حتى مزدوجي الجنسية والانتماء، فسيتنازعُ داخلكَ وطنان لا محالة، وستشعرُ أنّك تشدَّ الحبلَ تارةً إلى هذا البلد، وتارةً إلى البلدِ الآخر الذي نشأتَ فيهِ وترعرعت، كي تُحافظَ على مقدارِ الحبِّ متعادلاً لكليهما.

هذه الأسئلة أَعَادتْني إلى إحدى حلقات برنامج "خواطر" لأحمد الشقيري، التي كانت بعنوان "كأسنانِ المشط"، قارَنَ فيها بينَ مفهومِ السَّكن والمعيشة في الدول الاسكندنافية كالدنمارك مثلاً، وبينَ دولةٍ عربية. وأشارَ إلى أنَّ حقَّ الإنسان في الحُصول على خدماتِ الدولة هو ملكٌ للجميع، دونَ أيِّ تمييز، ثمَّ التقى بعدها بعربيٍّ هناك، عرَّفَ لهُ مفهوم الوطن بقوله: "الوطنُ: هو المكانُ الذي تُحفَظ فيهِ كرامتي ويكونُ فيه مَعَاشي"، وأعتقدُ أنَّ هذا التعريفَ هو اختصارٌ حقيقيٌّ لمعنى الوطنِ الذي نتمنّاهُ جميعاً، والذي للأسف بحثنا عنهُ في أوطاننا ولم نجدْه.

وطني "دُمَى قراطيّ"، يحكمُه القَتَلة واللُّصوص، وطني الذي تموتُ فيه امرأةٌ حامل، كانتْ تنتظرُ أن ترى ابنها يكبرُ أمامَ عينيها، فإذْ بزوجِها يشيّعها مصلّياً إلى الدار الآخرة، بعدَ أن رفضوا استقبالَها في المشفى، وطني الذي لا يحصلُ فيه المواطنُ على أبسطِ حقوقه، فلا يجدُ أمامَهُ سوى العَلَم ليحتضنَهُ ويبكي أسفاً على وطنٍ حرمَهُ حتّى من عربةٍ يسترزقُ منها، وطني الذي يُختطَف فيهِ الأطفالُ ثم يُنكلُّ بهم، ويرمون بعدها، دونَ أن يكونَ هناكَ قانونٌ يردعُ هؤلاء المجرمين إلى الأبد.

وطني الذي لا يحقُّ لنا أنْ نقولَ فيه "لا"، وإلاَّ سَنُتّهمُ بالعَمَالة والخيانة والجحود، وطني الذي يجرُّنا إلى المقابرِ جرّاً، وطني الذي تحتاجُ أن يكونَ عندك "المعريفة"، أيّ "الواسطة" حتى تحصُلَ على عملٍ أو تُخرِج وثيقة دونَ أن يرتفعَ ضغطُك، وإلَّا فانقعْ شهادتَكَ واشربْ ماءها.

وطني الذي تشرئبُّ أعناقُ مسؤوليهِ نحوَ الأعلى عندما نلوّحُ لهم بقطعةِ قماشٍ مليئةٍ بالشَّكاوى والتَّعب، وطني المليءُ بالحكام، الفقيرُ للحكماء، يقبعُ على كرسيٍّ عاجزٍ، ينظرُ لنا بسذاجةِ مَنْ أعياهُ النَّظر، ثمَّ يسلّمنا لِمَن يلهو بأموالنا وأرواحنا. وطني الذي قد يكونُ بالنسبةِ إلى البعضِ مجموعةً من الذكريات والأحجار، لا أكثر، وللبعضِ الآخر هو العائلة أو الزوج والحبيب، إلَّا أنَّهُ بالمقابل لا يعني شيئاً لفئةٍ كبيرة اختارتْ الرّحيل عنه، وهذه حقيقةٌ لا نستطيعُ نُكرانها.

أذكرُ هنا تلكَ التي تفتخرُ بأنّها رَمَت بجوازها في "البالوعة" -أكرمكم الله- غير مصدقةٍ بأنّها تخلّصتْ منه للأبد. أو ذاكَ الفنان الذي قال إن بلده لم يقدم له شيئاً، وإنَّ كلّ الامتنان والحب للبلدِ الذي يعيشُ فيه الآن.

ومع كلِّ هذا أقول: نحنُ نحقِدُ على أوطاننا لأنّنا ابتُلِينا بساسةٍ يجعلونكَ تكفُر بحبها والبقاء فيها. ونعتَبُ عليها حبّاً لأنّها دعتْنا قسْراً للخروج منها، وجعلتنا نحلُم بمغادرتها والعيشِ بعيداً عنها، وربّما حينها يتسنّى لنا العودة لها أقوى وأكثرَ حُباً، إلاَّ أنّنا نتمنّى أن نكونَ كنزار قباني، الذي عاشَ في المَنفى ثمَّ أوصى بأن يُدفَن في دمشق: "الرّحم الذي علّمه الشّعر، والذي علّمه الإبداع، والذي علّمه أبجدية الياسمين". أو كالشّاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الذي اختارَ سوريا منفى له وماتَ ودُفِنَ فيها، وبقيَ حنينُه للعراق واضحاً في أشعاره. وهو الذي قال:
"وإنّي ما غنّيتُ الوطنَ بحرارةٍ وعُمق إلّا في براغ"

وأنتم ماذا يعني لكم الوطن؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد