“ترانيم – ج 12”

تغيّر كل شيء، فلم يعد الأمر كما عرفنا وعهدنا، فالتغيير طال كل شيء، لجأنا لحكمائنا وشيوخنا الأجلّاء نلتمس مشورتهم ورأيهم السديد، فوجدنا عجزاً بادياً على وجوههم، وسَرَتْ في الآفاق صيحة عظيمة "لقد تغير كل شيء".

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/08 الساعة 04:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/08 الساعة 04:32 بتوقيت غرينتش

"سنوات من العزلة"

طالت عزلتنا سنوات عديدة، ثم جاءت الصدفة التي خير من ألف موعد، رأيتها فتوارت بعيداً وكأنما تتحاشى عيني، رأيتها كما أعرفها، وبهتت بعيني باقي تفاصيل اللقاء السريع.

ثم زادت نفحة السماء باتصال هاتفي طربت له.

قالت: لست أنا من كنت تعرفها من قديم فقد تغيَّرت!

قلت: جميعنا يتغيَّر مع الزمن، لكن يبقى القلب خافقاً ما دامت هناك حياة، وتظل الروح تهفو لمن تُحب أبد الدهر.

قالت: أنت واهم، فلست إلَّا أطلالاً توشك أن تتداعى في أي لحظة، وأفاضت في حديثها لإقناعي بما تقول، لكنها أغفلت أن لصوتها جرساً موسيقياً لا تخطئه أذني، لحناً يشي أن الحياة لا تزال كامنة تحت الرماد كجذوة ستشتعل في أي لحظة من جديد.

"خميس"

رأيته ينحدر من ناحية الميدان، يُسرع في خطوِهِ، بتكوينه الجسدي الغريب، لا تعرف إن كان سائراً أم راكباً، شيء يتدحرج فيثير غباراً حوله، انطلق صوب جمع من الناس يعرفهم، أشبه بقذيفة موجَّهة لضحيتها بدقة.. توقف يلهث ويتصبَّب العرق من جسده، وصاح منتفضاً: أفتقدكم بشدة.

كنت معنا بالأمس! من سويعات مضت، فدعك من ترّهاتك، وقل ماذا تريد؟
لاهثاً يمسح عرق جبهته بكم جلبابه المتسخ: الحقيقة لم أستطع النوم، فقد أصابني أرق شديد بعد أن سيطرت عليَّ فكرة غيابكم، فعزمت أن أراكم اليوم.

غيابنا؟

نعم فسوف تحلّ بكم نازلة لن تبقي على أحد منكم، فأردت رؤيتكم قبل ذهابكم.

وبذهابه اضطرب الجميع، وسيطر عليهم خوف شديد، فهام بعضهم على وجهه، وسمعنا بعد ساعات بمن مات منهم بحادثة وهو تائه غير مدرك، وآخرون ماتوا إثر أزمات قلبية عصفت بهم.

زمن قصير فات، وقد استقرَّ الجميع تحت التراب. بينما وقف "خميس" على شواهد قبورهم ينثر المياه، ويضع أفرع تحمل وريقات خضراء من ريحان، قرأ الفاتحة على أرواحهم مذكّراً إياهم بأمانة حمل السلام لذويه الراحلين، ثم قال بأسف بالغ سوف أفتقدكم كثيراً.

"ناعسة"

لا تظهر "ناعسة" إلّا حينما يحلّ النعاس ويغفو الوعي، فتأتي ومعها صندوقها الممتلئ عن آخره، المرئي للقلب، والمطموس عن العين.

فتكون حاضرة حينما أوقن بغيابها، تحمل شقاوة طفلة دون الرابعة من العمر، نزق مراهق يخاصم العالم أجمع، عنفوان محارب قديم.. أخشى وجودها كما أتهيَّب ذهابها.

"الحج"

كانت ترتاد المحل الصغير الذي أعمل به بإجازتي الصيفية لشراء احتياجاتها. بيضاء يغزو النمش وجهها، ضيقة العينين أشبه بالآسيويات، نحيلة القوام وإن شئت الدقة كانت عادية غير لافتة من الوهلة الأولى، سوى نظرة عينيها الناعستين، وكأنما صحت من فورها من نوم عميق استغرق سنوات كأهل الكهف. خفيضة الصوت، فإن تحدَّثت سحرت ضحيتها ليقع بين براثن أهدابها كفريسة بائسة ساقها حظها العاثر إلى حتفها.

لم تأتِ مرة بموعد متفق عليه، بل تهلّ حينما لا أتوقع مجيئها، تأتي فجأة وتمكث معي ساعات طويلة، فإن اعتدت وجودها تختفي. فأسأل عنها الجميع فينكرون رؤيتهم لها، ويسخرون من حديثي، وما زلت كلما تذكرتها يهلّ طيفها في خيالي فأجدني أحج لنفس المكان.

"أصل الحكاية"

سألت كلَّ من حضر الواقعة وأقسموا بصدقها، ومنهم من أثق فيه ثقة عمياء، وقد ملت على جار مسنٍّ من الأوتاد التي قام عليها الحي منذ قديم. سألته الحقيقة ولا شيء سواها، وقبل أن يبدأ كلامه ذكّرته بأننا لم نعهد عليه كذباً، كما أن طعونه في السن لا يسمح بذلك. فضحك قليلاً كعادة المسنين في الاكتفاء بالقليل في خريف أعمارهم، وقال:

كان يوماً لم تطلع فيه شمس، ضباب يملأ الأفق، وبرودة تَفتُّ في العضد، فمنعت الناس من الخروج، وكلها سويعات وسمعنا همهمة غامضة تنبعث من شارع جانبي، فأسرعت ومعي لفيف من الشباب لاستطلاع الأمر.

وقد قطعنا شوارع الحي الجانبية بحثاً عن ذلك اللغط، فلم نر إلا ظلاماً شحيحاً، وبرودة قاسية، تتعاظم مع هبوب الريح. فآثرنا أن نعود لنقطة البداية، حيث الميدان الصغير الذي يتوسط الحي.

"في صبيحة اليوم التالي"

تغيّر كل شيء، فلم يعد الأمر كما عرفنا وعهدنا، فالتغيير طال كل شيء، لجأنا لحكمائنا وشيوخنا الأجلّاء نلتمس مشورتهم ورأيهم السديد، فوجدنا عجزاً بادياً على وجوههم، وسَرَتْ في الآفاق صيحة عظيمة "لقد تغير كل شيء".

وفي صبيحة اليوم التالي اختفى الحكماء والشيوخ من المكان، كما اختفى كل من تجاوز سن الصبا من بشر وغيرهم من خلق الله، وبدا أن الحي يعج بالصغار من كل صوب، ينحدرون مبتهجين، وسمعنا منادياً يقول: "لقد انزاحت الغُمّة".

"الرأي القديم"

قاتل الله النسيان، عبارة لهج بها لساني عندما رأيته، صديق العمر بطوله الفارع، وقامته المديدة التي تطاول النجوم، وضحكته الصافية، وأدبه الجم.

وقفت أمامه مبهوتاً، فقد مرت عشرات السنين على آخر لقاء بيننا، وقد حمل وقتها من الجدل العنيف ما تجاوز مودّة متأصلة. فافترقنا والغضب يرتفع بيننا كجدار سميك، وبعدما ذهبت سكرة اللقاء سألني والجدّ يكتسي وجهه: أما زلت عند رأيك القديم؟

"لهفة"

امتلأت قاعة التدريب عن آخرها بعشرات المتدربين الجُدد، الكل كان يتهيَّب المكان ويتحسس طريقه بصعوبة.

عداه كان ينظر بلهفة، بحثاً عن رفيقته، حتى وقعت عيناه عليها. ضحك لها فردّت بابتسامة أشعلت نار الغيرة في بدر السماء فانكسف.

دقائق توقَّف فيها الزمن حتى قطع المُحاضر عليهم صمتهما، فاستأنف الزمن سيره من جديد.

"الرشفة الأخيرة"

مزيج عجيب اجتمعت فيه الكهولة والشيخوخة المبكرة مع فتوة الشباب، فنظرة عينيه متقدة، شديد الحساسية لمستقبل سعيد يبشّر به في أحاديثه، بينما هيئته توحي بشيخ عجوز يستقبل آخرته، خفيض الصوت يتعثر أحياناً في كلامه، وكأنما يقع في حيرة اختيار اللفظة المناسبة. حذر بطبيعته التي تتأرجح بين الوسوسة والشك في الذات والآخرين، لكنه في النهاية يحمل همّاً كبيراً.

تميّز عن أقرانه بحُب القهوة السوداء شديدة المرارة، فكان يتجرعها حتى الثمالة، وكأنما يعاقر خمراً لا يفيق منها، لا تراه إلَّا وفنجانه أمامه ينظر له بعشق، ويبدأ سهرته في المقهى، ويستمر الفنجان بصحبته، وبقاعه رشفة واحدة يُبقي عليها حتى قبيل انصرافه، ينظر لها، ويدور بينهما حديث صامت.

سألته: ما لي أراك تترك بفنجانك رشفة بقاعه، وتأبى أن تتجرعها حتى تنهض لتنصرف؟ ثم إنك تحيِّر النادل معك، فيجيء ويذهب، وكلما همّ باختطاف الفنجان الفارغ تزجره بعينيك فيفر مذعوراً.

فيضحك حتى تبدو أسنانه الصفراء من أثر الدخان والقهوة لعشرات السنين ويقول: الرشفة الأخيرة هي عالمي الذي أدور معه وحوله. ثم أطلق زفرة حارة وأردف، لكل منّا رشفته الخاصة التي يُبقي عليها إلى حين.

"دعوة على العشاء"

انهمكت في قراء كتاب قديم، وتنساب موسيقى خفيفة من مذياع بجواري، ويقترب الوقت ببطء من الفجر، سمعت حركة خفيفة أعقبها مواء قطة، ميّزته أذني بسهولة، اقتربت وأخذت تتمسح بأرجلي، وتموء بصوت خافت وكأنها تستعطفني جوعاً أو بحثاً عن أمن.

كانت سوداء كليل بهيم غارت نجومه وانكسف قمره بعد سطوع، عيناها واسعتان تجذبك إليها، وذيلها طويل تجره خلفها، ورغم غرابة وجودها معي في المنزل فقد تغاضيت عن ذلك، وأسرعت لإحضار طعام لها فأسرعت خلفي تمر بين قدميّ، تقاطع خطواتي بمرح وشقاوة، رافعة ذيلها وكأنما تشكرني على صنيعي الذي لم أتمّه بعد.

انتهيت من إعداد طعامها ثم ناديتها، لكنها اختفت، تبخَّرت، فبحثت عنها في أرجاء المكان، ونزلت السلم حتى الباب الحديدي الخارجي فوجدته مغلقاً. استغرقتني دهشة كبيرة، صعدت وحاولت استكمال القراءة مرة أخرى وقد شرد عقلي بعيداً، فنهضت لإعداد فنجان قهوة، لكني فزعت ممّا رأيت، فقد اختفى طعام القطة أيضاً. فألقيت الكتاب جانباً، وأطفأت المذياع وأويت سريعاً لفراشي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد