في إحدى ليالي الشتاء المُمطرة، في شهر يناير/كانون الثاني من العام الماضي، خرجتُ أنا وصديقي كعادتنا نستمتعُ بتلك الأجواء في شوارع القاهرة القديمة بوسط البلد، حيثُ الشوارعُ وهدوؤها، والأمطار ورائحتها، وليالي الغرام وذكرياتها، فأنين العشق وأوجاعهُ دوماً تهفّ علينا مع ليالي الشتاء الباردة، وذكرى الحب تغمرُنا مع أمطارهِ المُتساقطة.
وبعد ساعاتٍ من التسكُّع أنا وصديقي في الطرقات، واسترجاع ما يجمع بيننا من ذكريات، أنهكنا التعبُ، وتكاثر علينا هطول المطر، وقد تصادف مرورنا آنذاك أمام مقهى من مقاهي القاهرة العتيقة، فاتفقنا أن نكمل ما تبقى من سهرتنا به.
فما إن وضعتُ قدمي في هذا المقهى حتى خفقَ قلبي، وشعرتُ بشيء لم أشعر به من قبل، وحدثتني نفسي بوجود ليلى هنا!!
ليلى؛ ذلك الحب الذي مضى عليه سنوات طوال من البُعدِ والفراق وما زلت أبكيه كل ليلة.
فأخذتُ أتلفت يميناً ويساراً، لعل داعي الشوق قد صدق في ندائه فأراها!
فالتفت صديقي إلى مبعث حركتي، وسألني عن سبب حيرتي وعِلتي..؟
فقلتُ له بوجهٍ شاحب، وبصوتٍ متهدج، وبعينٍ تغمرها الدموع: ليلى هنا!
فتبسَّم لي وقال: ما زلت بعد تلك السنوات الطوال من البُعد والفراق تُمنِّي نفسك بلقائها، وتبحثُ في المقاهي والطرقات عن طيفها، ويعاودك الحنينُ لها، وتعيشُ على أملٍ بلقاءٍ يجمعُكَ بها، وهي التي قد جَفَتْك، ونسيت أشواقها لك! كنت حسبتكَ قد نسيتها وضاع عن بالك اسمها.
فقلت لهُ وكيف أنسى حُباً أبكيه كلَّ يومٍ!
فإن كنا عن بعضنا قد تباعدت أجسادُنا فما تباعد عن قلبي حبها، وإن كنا تفرقنا وانقطعت أخبارنا عن بعضنا، فما زال في نفسي شوق لها، كأن حبها زرع غرستهُ في قلبي ثم رحلت عنه، فأرويه أنا بدموعي كلَّ يوم وفاءً لها وإخلاصاً في حُبها.
وما الذي يجعلك مُتيقناً من وجودها هنا؟
فرددتُ عليه وأنا أنظر إلى السماء محاولاً إخفاءَ دمعي، وقلتُ له: لقد وجدتُ في الهواء عِطرَها، وسمِعتُ في أحد الأركانِ صدى صوتها، وقد خفق قلبي أولَ ما دخلتُ إلى هذا المكان، وهو الذي قد أخذ عليَّ عهداً بألا يخفق إلا لها، ولا يحنُ لغيرها. يا صديقي من سرى الحب في قلبة رأى أثرَ محبوبهِ بقلبه قبل عينه، لذا فأنا متيقن من وجودها هنا.
فحملق إليَّ وقال ربما زارك طيفها القديم، فأرقَّ فكركَ وأتعبَ نفسَك وأعاد إليكَ الحنين، هوِّن على نفسك ولا تكن من المُعذبين.
لم أعبأ بحديثهِ وأخذت أُفتشُ عنها في أركان المكان، انظر إلى وجوه النساء وأُحملق في وجوه الصبايا والفتيات، وأمرُّ ببصري على كل الشُّرفات.
فلما أحسَّ بنكبتي، وشعرَ بلوعتي وحُرقتي، قال هيا بنا ننصرف من هذا المكان.
فانصرفنا ومشينا في طريقنا بضعة أمتار، وما زالت عيني شاخصة نحو المقهى، وقلبي متعلقاً هناك، وكلما ابتعدنا سمعتُ صوتَها يناديني أنا هنا.. أنا هنا.. أنا هنا.
وللحديثِ بقية
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.