الحمد لله، وبعد:
فقد رأيت تسجيلك اليوم.. فألفيتُكّ تردُّ على مخالفيكَ بأعذب لسان وأبلغ بيان، وأنبل خلق من غير تشنج ولا نزق.
وتأملتُكَ وأنتَ تضعُهُم في الحرجِ وتلبسُهُم ثوبَ الجناة بجميل قولك في مقابل قبيح فعالهم، ثم تأسرُ مريديك بذكر التدليس الذي وقع من شانئيك حين اقتطعوا دعاءك، ورموك بما أنت منه بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب!
فأدركتُ أنك لم تفهمْ شيئاً! ولم تتعلمْ من الحياةِ درساً.. وأنَّ التجربةَ لم تصقل وعيَك، والمعرفةَ لم تضبط -إلى الآن- وجهتَك.
أتدري؟
لست أدري بأي وجهٍ ألقاك ولا بأي لسانٍ أخاطبك!
أألقاك بوجه الحسين -عليه السلام- وأنا أذكرُ كيف كانت روحي تحلِّقُ معك وأنت تحكي قصص البطولة والرجولة حين أجمع أمره وتأبطّ سيفه.. وهو يعلم أن القتل مصيره المحتوم، وأنّ خذلان أهل الكوفة قدره المعلوم.. لكنّه أبى أن يقال يوماً: إن ابن بنت رسول الله كان شيطاناً أخرس، تهيَّب أن يقول للظالم: يا ظالم!
أو أن يقال: إن بضعة عليّ الذي نام يوماً على فراش النبيّ وهو صبيّ، قد التاعت وارتاعت نفسه عن استكمال سيرة أبيه ومسيرته حين أبى أن يكون أمرُ المسلمين ملكاً عضوضاً، ودُولَةً بين الأغنياء منكم!
أم أخاطبُكَ بلسان أحمد بن حنبل الذي كان يُضربُ بالسياط حتى يُغمَى عليه، ويُنخَسُ بالسيف فلا يحس، ونفسه الشماءُ تأبى عليه أن يرحم جسده من العذاب فليس للإمام أن يأخذ بالرخصة، ولكنك تجاوزت ذلك الموقف الرهيب المهيب؛ لأنه لا يناسب "دعوتك للتعايش"! ورحتَ تلتقطُ من سيرتِه ما يخدمُ فكرتك.. ثم أنت تستوحش غاية الاستيحاش وقوع خصومِكَ فيما وقعت أنت فيه، وهم ينسجون اليوم على منوالك!
أم أذكِّرُكَ بما ذكرتَهُ لنا يوماً من كلام عبد الله بن المبارك وهو يلهب بسياط شِعْرِهِ ضميرَ الفضيل ابن عياض:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ** لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ!
من كان يخضبُ خدُّه بدموعه ** فنحورنا بدمائنا تتخضبُ!
أتدري؟
لستُ أدري.. كيف طاوعتك نفسُك أن تنزفَ صوتك فوق منبرنا الجريح أياماً، وأنت تبثُّ في أرواحنا: "لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه".. ثم إذا اشتدّ البأسُ، وحمى الوطيس، وجنّت ساعةُ قولِ الحقّ في ساحات الوغى عند سلطان جائر.. أمسكتَ لسانَك، وكففتَ جنانك، وطالبتَ غيرَكَ باجتناب الفتنة، وليتك حتى فعلت!
فكأني بك قد نسيتَ أو نُسّيت! فكثرةُ الكلامِ يُنسي بعضُه بعضاً.. وصدق عمر: من كثر كلامُه.. كثر سقطُه، ويبدو أنّك ما فهمت -على كثرة اطلاعك- لمَ؟ تعلَّقَتْ أفئدةُ المؤمنين بأحمد بن حنبل، ولمْ تتعلق بأحمد بن أبي دؤاد! وأنك ما فقهت -رغم سعة مطالعاتك- لمَ؟ ظلت الألسنة تلهجُ بالترحُّمِ على سيد قطب (رغم أغلاطه) بينما هي تلعنُ قاتليه!
أتدري؟
كلما تذكرتُ كلماتك وأنت تقول: كان الناسُ في الجاهلية يكنّون عَمْر بن هشام بأبي الحكم، وكنّاه الرسولُ صلى الله عليه وسلم بأبي جهل.. وكلما استرجعتُ محاضراتك وأنت تنقل لنا بشارة النبي لعمّار وسمية وهو يبثهما الأملَ في ساعة العسرة: (صبراً آل ياسر إنّ موعدكم الجنة) فيما ظلت الأفواهُ تردد وإلى قيامِ الساعة (تبّت يدا أبي لهب وتبّ) رغم رقة حال هؤلاء.. وانتفاخ أوداج أولئك!
فكلما قلّبتْ عليّ الذاكرةُ تلكَ الأحداثَ وهذه الأحاديث.. قلَّبتْ عَليّ المواجعَ وأسلمتني إلى الهموم، ورمتني في سويداء وجداني بسهمٍ لا أستطيع صرفه عني ولا تحويلاً.. فلا يكون مني إلا أن أضرب كفاً بكفّ وأنا أتمتم في حسرة: "يا حسرةً على العباد"!
أتدري؟
فيما كانت الفتيات المخمليات يتبارين إلى التصوير مع عمرو دياب على شواطئ الساحل الشمالي بمصر.. كانت صورة محمد أبو تريكة تحفرُ مكانها وتنقش مكانتها في نفس كل حرّ من المحيط إلى الخليج!
وبينما تطلعت الأبصارُ نحو مليارات بيل غيتس.. تعلقت النفوسُ بكلمات ستيف جوبز!
ويوم تحيرت العقولُ في عبقرية روبرت أوبنهايمر بعد أن كرمه كينيدي وجونسون.. قام هو بتسريب معادلات القنبلة النووية للاتحاد السوفييتي، ثم قرر أن يعتزل الحياة والأحياء حتى مات وحيداً شريداً
بل أزيدُكَ من الشعر بيتاً..
تعلقتْ قلوبُ الملايين بكارل ماركس رغم إلحاده! ولم يعرفِ -حتى حذّاقُهم- اسم كاهنٍ واحدٍ من كهان القياصرة رغم إيمانهم! وخلّد التاريخُ بحروفٍ من نور اسم مانديلا.. فيما لم يعرف أحدٌ اسم جلاديه! وتناقل الأحرارُ كلمات غاندي ولم يسمع أحدهم ركزاً لسجانيه! وآمن الباكستانيون بكلمات (ذو الفقار بوتو) يوم رفع هامته عنان السماء وهو يقول: "سنأكل العشب لكننا سنصنع القنبلة النووية"، فرد عليه هنري كيسنجر: "سنجعل منك أمثولة".. نجح كيسنجر في إعدام بوتو! لكنه فشل في منع باكستان من صنع السلاح النووي!
أتدري؟
بأي شئ أُعَزّي نفسي؟ وأنا أرى حَمَلَة الشهادات العلمية المزخرفة، والألقاب الشرعية المزركشة.. ثم هم يثنون صدورهم وألسنتهم ليستخفوا من الحق ومنا..
أعزّيها بأن بلالاً وهو يهتف تحت وطأة سياط العذاب في قيظ فيافي مكة: أَحَدٌ.. أَحَد.. لم يكن يعرفُ هل التوحيدُ قسمٌ واحدٌ أو ثلاثةٌ أو أربعة! وبأن خالداً لم يكن يحفظُ سوى قصار السور ثم حين أطل عليه الموتُ قال محزوناً مهموماً: ما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء!
ربما هو لغزٌ، أو ألغاز لا يربط بينها رابطٌ، لكني أتركُ لكَ الاضطلاعَ بمهمة فكّ أسراره، وهتك أستاره، ومعرفة ماهيته وسبر أغواره، لعلك تفهمه يوماً!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.