لا خبر هذه الأيام يعلو فوق فضائح الاغتصاب والتحرش الجنسي، وآخرها واقعة اغتصاب فتاة تعاني إعاقة ذهنية على يد مجموعة من المراهقين بحافلة نقل عام، في واضحة النهار وأمام الملأ، ومن ضمنهم سائق الحافلة، والذين اكتفوا بالمتابعة والتفرُّج على أحداثها المُشينة والصادمة!
وبعيداً عن لغة الخشب وتعابير الإدانة والاستنكار التي أصبحت تطفح بها كل وسائل الإعلام ووسائط الاتصال الحديثة- فإن الوقوف عند هذه الواقعة يقتضي تأويل دلالتها العميقة ومعانيها المخفية؛ فالاغتصاب والتحرش الجنسي موجودان في جميع المجتمعات، بما فيها المتحضرة، ولكن ما يميز حالتنا أنها غيض من فيضِ ما أصبحنا نعانيه كل يوم في ربوع هذا البلد.
إن ما جرى في تلك الواقعة المشينة عرّى حجم الانحدار الأخلاقي الذي هوى إليه المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة وأصبحت أعراضه واضحة في العديد من السلوكيات والممارسات المشينة المنافية لأعرافنا وقيمنا السائدة. وعليه، فإن المنطق يفرض علينا مراجعة واقعنا وتشخيص عِلله من منطلق أن الكل يتحمل مسؤولية هذه المأساة الأخلاقية.
مَن المسؤول عما جرى؟
تبيِّن كل المؤشرات أننا نشهد بزوغ مجتمع جديد انحرف عن جادة المبادئ والمُثل الأخلاقية والقوانين والأعراف ولم يعد يؤمن إلا بمنطق الفوضوية وبملامح السيكوباتية، أصبحنا نمارسها في معيشنا اليومي، قوامها العدوانية وكراهية الآخر ورفض ثوابت الدين والأخلاق السمحة.
إن هؤلاء المراهقين هم في المحصلة نتاج لكيمياء هذا المجتمع الذي اختلت موازينه ومعاييره وتجسيد لحالة إفلاس اجتماعي، ساهمت فيها عناصر متعددة تتحمل في ذلك المسؤولية الكاملة عما جرى، وأولها الأسرة التي باتت عاجزةً عن رقابة على سلوك الأبناء وتنشئتهم وفق المعايير الأخلاقية والدينية وضمان اندماجهم في المجتمع كمواطنين متحضِّرين على أساس الحوار وقبول الآخر.
وإن أهم أسباب تدني حسّ المسؤولية الأخلاقية لدى أجيال اليوم، هو غياب سبل التواصل والحوار التي يفتقدها حتى الوالدان نفسهما في حياتهما الزوجية، فمجرد نزوة أو كلمة عابرة تنتهي بالشقاق والطلاق، الذي ارتفعت نسبه على الرغم من المجهودات المبذولة، وفي النهاية يدفع الأبناء ثمن ذلك جسيماً.
ولا ينبغي تجاهل هشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتهميش والإقصاء والحرمان من الحد الأدنى لظروف عيشٍ كريمٍ، خالقةً على أساسها حالة شعورية جماعية بالقهر والإحباط وفقدان الإيمان بمؤسسات الدولة وهياكلها وبقِيم وأعراف المجتمع المغربي؛ فصار العنف وسيلة لإثبات الذات وقناة للتواصل.
ومن جهة أخرى، لا يخفى على أحد أن النظام التعليمي المغربي، الذي ينبغي أن يتكامل مع الأسرة لتربية الفرد وتكوينه أخلاقياً وقيمياً، دخل مرحلة الاحتضار الوظيفي؛ فبعد عقود من المخططات الإصلاحية والمليارات من الموازنة العامة التي تم ضخها لتطوير هذا القطاع الاجتماعي- انتهى إلى إخفاق في تحقيق غايته ومقاصده الأساسية، منعكساً في تأزيم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويمكن أن نعتبر الفلسفة التربوية حجر العثرة أمام أي إصلاح؛ لكونها مبنيَّة على هاجس الحفاظ على السلطة والثروة وترسيخها في يد النخبة الحاكمة.
ومن ثم، مع عقود من الاستهداف المتعمَّد للمنظومة التعليمية، تحولت المدرسة إلى مرتع لاكتساب المفاسد الأخلاقية؛ من تعاطٍ للمخدرات وممارسة الفاحشة الأخلاقية بجميع أنواعها، وساهم في تفشي ذلك تكبيل الأطر التربوية بالمذكرات التنظيمية التي تمنع إخراج المتعلمين أو ممارسة سلطة زجرية في حالة حدوث تجاوزات جسام، كتخريب ممتلكات المؤسسة أو ممارسة العنف في حق الأساتذة.
ولا يستقيم الطرح دون الحديث عن الفاعل الأساسي وهو الدولة، التي تُعتبر الوصيَّ الأول على المجتمع. ويمكن القول إن واقعة الاغتصاب تجسيدٌ لفشل سياساتها الرسمية في جميع المجالات، ابتداءً بالمجال الاقتصادي، بعد الإخفاق في تحقيق إقلاع ونمو للاقتصاد المغربي وتحسين الأوضاع المعيشية للملايين من المغاربة، وهي كذلك مسؤولة عن الفساد الأخلاقي بترويجها من خلال وسائل الإعلام صورةً مغلوطةً عن العلاقات بين الجنسين وشيوع ثقافة تسليع المرأة واختزالها في صفة الكائن المخصص لإشباع شهوات الجسد، عبر المسلسلات المدبلجة والأفلام الهابطة المنافية للحياء العام، البعيدة كل البعد عن قيم المجتمع المغربي وثوابته الدينية.
وحتى المجال الديني بتأثيره ونفوذه الروحي، بات بلا جدوى ولم يعد يمارس دوره الوعظي والتهذيبي عبر نشر مكارم الأخلاق؛ بل صار شغله الأساس ضبط الخطاب الديني الرسمي على خدمة السلطة، والتركيز على ضمان الولاء للحاكم، ومنع الاحتجاجات بداعي التخويف من الفتنة، وترويج نمط من الإسلام الرسمي القائم على التدين الشكلي المقتصر على طقوس جوفاء دون أن يرتقي ذلك إلى ملامسة جوهر الدين الإسلامي ومقاصده السمحة.
وفي المحصلة، فإن تضافر هذه العوامل ككل لا يمكن إلا أن يقود نحو إنتاج هذه الأجيال الشابة المحبَطة والمتمردة على أعراف وقوانين المجتمع. وفي اعتقادنا المتواضع، فإن ما حصل في هذه المأساة لا يعدو أن يكون شجرة تخفي وراءها غابة، فما خفي كان أعظم.
وهنا، سننقل النقاش بعيداً عن التشخيص للتحول نحو اقتراح سبل كفيلة بتجاوز هذا الواقع المرير. وقبل ذلك، ينبغي أن نطرح السؤال الجوهري: ما هي الأطراف التي ينبغي أن تسهم في حل هذه المشاكل الأخلاقية.
سبل تجاوز المعضلة الأخلاقية
إن المجتمع المغربي، حقيقةً، يواجه معضلة أخلاقية عميقة تنخر هيكله ونسيجه الاجتماعي؛ فمن فساد النخب الحاكمة وهدرها المال العام، مروراً بمعاناة المواطنين شبه اليومية أمام البيروقراطية، وانتهاء بحوادث جرائم الحق العام، ما هي إلا تعبير عن انتفاء الوازع الأخلاقي من ثقافتنا وفلسفة حياتنا.
وعليه، فإننا مطالَبون أكثر من ذي قَبل بضرورة المراجعة العميقة لفلسفة حياتنا قبل فوات الأوان، ولا بد من الإقرار بأن السياسات العمومية قد انتهت إلى الفشل الذريع في جميع القطاعات وهي التي أنتجت هذه الأجيال المحبَطة والمتمردة على قيم ومُثل المجتمع المغربي بعد أن فقدت إيمانها بإمكانية التغيير والارتقاء نحو مستقبل أفضل.
ومن ثم، لا بد من تفعيل المحاسبة والمساءلة، والأهم من ذلك أن المبادرة لا بد من أن يدشنها المواطن؛ فهو المعنيُّ بالأمر، وعليه أن يمارس دوره في إطار منظمات المجتمع المدني في تدبير الشأن العام دون انتظار السلطات العمومية التي أبانت عن فسادها وعدم كفاءتها في تدبير الشأن العام.
وقبل ذلك، ينبغي لنا ردُّ الاعتبار للمدرسة المغربية العمومية وتطويرها على أسس فلسفية جديدة، وبمقاربة تربوية تروم بناء الإنسان المغربي وجعله قاطرةً للنمو الاقتصادي والاجتماعي. وأول خطوة في ذلك، تقويم الأخلاق العامة، أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فلن يقودنا ذلك إلا نحو إعادة إنتاج الأزمات والكوارث نفسها إن لم تكن أسوأ مستقبلاً، فهل نحن منتهون؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.