مرّ أمامي منشور لامرأة تسأل أحد لأشخاص المتصدرين للفتوى بشأن قضية "ترتيب" الحواجب، والتي يسمونها في سياق الفتوى "النمص". تشتكي السيدة من أن زوجها لا يرى في هذا الشخص أهلاً للفتوى وليس مقتنعاً بأن هذا الأمر مسموح به في الدين، وأن "النمص" حرام وملعونة من أتت به. ألقيت نظرة على التعليقات فإذا بي أجد سيلاً عارماً من الاستنكارات والاعتراضات من نساء ورجال يتحدثون عن التفريط في الدين، واللعب بثوابت الدين، وانفصام عُرى الدين.. لم أستطع إلى أن أبتسم حسرة وأقلب الصفحة.
تذكرت وأنا أتأمل في هذه الحادثة موقفاً قرأت عنه أو حكاه لي أحدهم عن الشيخ الغزالي رحمه الله، حيث أتاه شاب يسأل مراراً عن ماذا يفعل بإصبعه السبابة بعد التشهد، فما كان من الشيخ إلا أن قال له: اقطعه. والحقيقة أن الشيخ لم يكن يستهزئ بالسائل، ولكن بالسؤال، ويقدم علاجاً حقيقياً للسطحية والاختزال التي وقع فيها حتى أصبح محتاراً ماذا يفعل باصبعه التي رفعها للتشهد بعد الانتهاء منه وكأنها قضية إيمان أو كفر.. والغازلي قد سبق أن قال: المسلمون الآن مصابون بتديّن الشكل، لا تديّن الموضوع، والدين عندما يتحوّل إلى طقوس ومراسم يفقد قيمته.. لأن الدين قبل كل شيء قلب حي وضمير يقظ وسريرة نظيفة.
لا أريد تعليقات من صنف: أنت حاقدة لأنك لا تستطيعين أن تلتزمي بما تلتزم به تلك الفتيات القانتات ولهذا تنتقدين، أو: أنت جاهلة لا تعرفين شيئاً من أمر الدين، أو: هل يسمح لغير الطبيب بعلاج المريض؟ فلماذا يتحدث كل من هبّ ودبّ في الدين؟
طبعاً سيقول لي الجميع لا يجب الفصل بين المظهر والجوهر وأنه لا تعارض بين تحريم أن تنتف امرأة شعيرات من حاجبها وبين أن يكون هناك تقوى حقيقية. والمأساة في رأيي أننا نتعامل مع شعيرات حاجب المرأة وكأنها باب من أبواب فساد الدّين، مثل أولئك الجهلة معتقدي الصلاح والإصلاح الذين يدورون على حوائط البيوت ومقاعد المواصلات العامة ليكتبوا عبارات مثل: إن تحجبت النساء رُفع الغلاء. ولا أعرف هل يقصد بذلك أن زيادة معدل شراء الثياب وأغطية الرأس التي يتطلبها الحجاب ستحسن الوضع الاقتصادي وبالتالي تنخفض الأسعار؟ أم أنه لا منطق في عبارة كهذه وهي مجرد إيمان راسخ أننا بمجرد أن نحجب النساء ستحل كل مشاكلنا؟ هي في الحالتين علامة على قصر النظر وضعف القدرة على التفكر.
سأقول لكم أين أعتقد بأن المشكلة تكمن أيها الأصدقاء، تكمن المشكلة في ما يسمى بـ "الإرضاء الزائف للنفس". عندما تكون أنت شخصاً غير أخلاقي بدرجة كبيرة، على سبيل المثال تخدع الناس في عملك، ولكنك على الجانب الآخر مقتنع بأنك شخص جيد لأنك تصلي في المسجد طوال الوقت وإن كنت لا تربي ذقنك ولا تلبس اللباس الرسمي للناجين من النار، لكن لأنك تخيرت من بين كل الأمور التي يجب أن تلتزم بها دينياً الصلاة في الجماعة كعملك الصالح الذي تقدر على الحفاظ عليه، فقد رأيت في هذا العمل الرضا الذي تحتاجه لكي تمشي في الأرض تأكل مال الناس وتعلل نفسك بأنك من الناجين لأنك تصلي الجماعة في المسجد ولا شيء يفوق ذلك.
وعندما تكونين أنت شخصية تعيش حياة خالية من الفائدة للآخرين بشكل عام، لكنك لا تلمسين حواجبك، وربما تغطين وجهك أيضاً، وتجدين في هذا الإنجاز أمراً يستحق التبجيل، لأن من أقنعك بذلك رسم لك صورة مفادها أنك كإمرأة غاية حياتك أن تتحجبي ولا تلمسي شعيرات الحاجب تلك التي ستدمر الكرة الأرضية، وأنك بذلك تتفوقين على كل النساء الأخريات اللواتي قد تكون منهن الطبيبة التي تساعد الناس صباح مساء، وتستقطع وقتاً لصلاتها، وتلبس لباساً محتشماً وتراعي الله في تعاملاتها.. لكنك يا عزيزتي قررت أنك أفضل منها وأن إبقائك على بضع الشعيرات الإضافية أمر عظيم الشأن يؤهلك للتتفيه من كل ما تفعله هذه المسكينة فقط لأنك استجبت لأمر "إلهي"، كما وصفوه لك.. وكما يرددون على مسامعك: كل ما تفعله هذا سيذهب هباءً منثوراً لأنها "تعصي ربها".
أرجو أن لا يتحول النقاش للدفاع عن فئة من البشر بعينها واتجاه بعينه،.. لست جاهلة بدقائق الأمور، عشت معظم حياتي في إحدى الدول "المحافظة" وأعرف تماماً تفاصيل الخطاب الاتخزالي هذا وأساليبه، أعي تماماً الجو العام لمثل هذه "المجموعات" النسائية "المتدنية" التي تخاطب غيرها وكأنها مقدرة للجحيم، سمعت الخطاب الذي يوجهونه للناس وكأنهم يتحدثون إلى أطفال، أو أغبياء، أو مساكين جاهلين ينتظرون من يدلهم على مسالك الفلاح.. لذلك رجاءً لا أريد تعليقات من صنف: أنت حاقدة لأنك لا تستطيعين أن تلتزمي بما تلتزم به تلك الفتيات القانتات ولهذا تنتقدين، أو: أنت جاهلة لا تعرفين شيئاً من أمر الدين، أو: هل يسمح لغير الطبيب بعلاج المريض؟ فلماذا يتحدث كل من هبّ ودبّ في الدين؟ لأن هذه الأسطوانات هي التي أوصلتنا لهذه الحال التعيسة التي نعيشها..
سألملم أطراف الحديث في الفقرات الباقية حتى يخرج من يقرأ بفائدة.
نحن عندما نعطي الناس مخرجاً بالتدين التعبدي الظاهري يتحصلون منه على "الرضا الإلهي" ندمر فرصهم في البحث عنه في حقيقته القيمية الروحية. عندما يكون كل همّ الإنسان أن يحقق "الصورة" فهو بطبيعة الحال سيرتاح عندما يصل إليها ويتوقف عندها.. أما عندما تنطلق من المبدأ، من القيمة، فإن الصورة ستظهر لوحدها دون تكلف ولا تنطع.
كان أحرى بك أيها السيد لو ركزت في قضية الصلاة على أثرها الروحي وعلى أنها لا تصح إلا عندما تنعكس على حياة ممارسها بشكل مباشر، وأنه يدك وضعتها بجانبك أو على صدرك، وإصبعك تحرك أو ظل ساكناً لا يشكل فرقاً إن كنت ستترك المسجد وقلبك فارغ وعقلك منشغل بالكسب والتحصل فقط.
ولو كنت يا فارس العفة وحامي حمى طهارة ركزت في حديثك على الحشمة، وأنها تشمل جميع جوانب الحياة، وأنها في أصلها معركة داخلية نفسية تسعى للتخلي عن الرغبة في الظهور لأجل الظهور، والتباهي، والتزين للحصول على المديح، واستخدام ما أنعمه علينا الله بطريقة مسؤولة دون إسراف، لما احتجت أن تجلس تحدد للمرأة أي شعرة تنتف وأي شعرة تبقي، كانت ستعرف في داخل نفسها الهدف من وراء ما تفعله وتقاوم ما لا يصح منه، كما كانت ستقاوم ارتداء الثياب غير المحتشمة وكما كانت ستقاوم استخدام مساحيق التجميل المبهرجة.. دون أن تلجأ إلى قطعة قماش سوداء تلفها بها حتى لا تفتن حضرة جنابك..
عندما ظهرت ما تسمى بالصحوة الإسلامية في الثمانينات ظن الناس أن الأحوال ستنقلب وسنعيش كلنا في رخاء البلاد الإسلامية وعودة الناس إلى "الدين"، ولكن ما الذي حصل؟ لا شيء.. نحن من سيء لأسوأ..
لاحظ أن هدفك في النهاية أن لا تفتن حضرة جنابك، وليس أن تكون هي إنسانة متزنة متعالية عن التوافه، تجد قيمتها في شيء آخر غير مظهرها، ورغبة الرجل فيها. أمر مثير للعجب كم الحديث في هذه القضية! قصي ولا تنزعي، انزعي بين الحاجبين فقط، انزعي فوق الحاجب فقط، لا تلمسيه أبداً.. والله وكأنه دين آخر غير الذي أؤمن به ذلك الذي يستنفذ كل هذه الطاقة في قضية كهذه دون أدنى نظر في مبعثها.
في الدراسات الدينية يقال أن الإيمان يمر في حياة الإنسان بمراحل، أحدها الإيمان الذي يركز على المظاهر الشكلية، وهي مرحلة غالباً ما تتركز في فترة المراهقة والشباب الأولى، لأن الإنسان في تلك المرحلة ينبهر بجسده بصورة أو بأخرى ويكون محط تركيزه، ولكن لا ينبغي أن يطول الأمر، التطور الطبيعي للإيمان يستوجب أن ينتقل منها إلى مرحلة الإيمان القيمي العميق، الإيمان الذي يكون المظهر مجرد تجلٍّ له وليس محدداً له. لست من الذين يقولون بأن الإيمان إيمان القلب فقط، لأن الإيمان إذا وقر تجلّى في السلوك وفي ما يظهر من حياة الإنسان. ولست كذلك ممن يقيّمون الإيمان بالمظهر مباشرةً، فيتجهون من الخارج إلى الداخل، لأن النتائج ليست دائماً مضمونة..
كما قلت نحن نمر في حياتنا بمراحل للإيمان، ليس من الحكمة أن نقف عند نقطة محددة ونقضي فيها سنوات عمرنا بمجملها. عندما ظهرت ما تسمى بالصحوة الإسلامية في الثمانينات ظن الناس أن الأحوال ستنقلب وسنعيش كلنا في رخاء البلاد الإسلامية وعودة الناس إلى "الدين"، ولكن ما الذي حصل؟ لا شيء.. نحن من سيء لأسوأ.. لأن الدين الذي استيقظ ليس هو الدين التي تقوم به المجتمعات وتنصلح به الأمم.. إنه إسلام السوق، ودين الاستهلاكية.
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.