دعوني أؤكد لكم أنَّ العالَم يحوي ثلاثَ فئاتٍ من البشر: الرجال، والنساء، والأمهات!
وهذه الفئة الأخيرة هي التي تحمل على كتفيها الفئتيْن الأولى والثانية.
لهذا فنحن نحتاج أنْ تكون تلك الفئةُ هي الأوعى والأقدر على الحياة، والأكثر تصالُحاً مع نفسِها.
الأمُّ التي تضيع.. يضيع من بعدِها الصغارُ.
كوني قويةً مهما شعرتِ بالعجز.. الألمُ يغطي العالَم؛ أزيحيه بقوتكِ عن قلبكِ وعن بيتكِ.
الفرحُ لا يأتي إلَّا لمَن يبحثُ عنه، والرِّضا لا يكون إلَّا لمَن يبذل جهدَه، ولا ينتظر العونَ من أحدٍ غير الله.
استقوي، وتظاهَري بالقوة ما استطعتِ إلى ذلك سبيلاً، واجعَلى لحظاتِ الضَّعف في المُصلى وبينك وبين الله، لا أمامَ الصغار!
الحياةٌ كريهةٌ وصعبةٌ على الجميع، ولا تستثني أحداً، وإنْ كانت الأمهاتُ هنَّ أكثر مَنْ يتعرَّضُ لنفحاتِ الله.
الأم التي تتظاهر بالقوة يصدِّقها الصغارُ، وأنهم صاروا أقوياءَ لا تستطيعُ الحياةُ قصْم ظهورِهم أبداً.
إنَّ القويَّ هو الله، وإننا حين نقاوم الألمَ يوماً آخر في هذا العالَم؛ فلا يكون ذلك إلا نفحةً من نفحاتِ القويِّ (سبحانه!).
ردّدي لنفسِك كلَّ يوم أنك لن تستسلمي أبداً..
قالت لي تلك الصديقة التي جرَّبَتْ أنْ تكون أُمّاً معيلة، وبلا مُعينٍ إلَّا الله: إنها كانت تستيقظُ كلَّ صباح وتطلبُ المدَد والقوة من الله، وتردِّد لنفسها:
– أنا اليوم من الناجين، أنا لن أنسحب!
I am a survivor I am not a quitter
تقول لي إنها بعد أعوام من المجاهَدة مع الحياة، وعندما استقرَّ بها الحالُ، كانت كلماتها لنفسِها هي المعين الوحيد بعد الله في أحلكِ المواقف، وإنها تعلَّمَت أنَّ الشخص الذى لا يجيد التربيت على كتفه الخاصِّ لا يُرجى منه خيرٌ لأطفاله، ولا لعالَمِه كلِّه.
الأمهاتُ عالَم مُثقَل بالهموم، لكنَّهنَّ أيضاً جزيرةُ الأمانِ في بحرٍ متلاطِم الأمواج.
كنتُ أقول لنفسي دائماً: إنني سأعيشُ الطفولة مع طفلي من جديد.
يجب أنْ أفتِّش عن البهجة والسلام في عينيْه؛ لأنجو يوماً آخرَ من آلام الحياة.
المسؤولية ثقيلة جدّاً، والأمهاتُ فئة تعاني في صمتٍ.
هل رأيتم الناسَ يوماً تربِتُ على كتف أمٍّ تبكي؛ لأنَّ صغيرها يتقيَّأ، وهي تعبَت مِنْ مسْح القيء؟!
هل أعطى أحدُهم جائزةً لأمٍّ مسحَت مؤخِّرةَ صغيرها وغيَّرَت حفاضتَه مئات المرات؟!
نحن كنا بشراً يوماً ما نصاب بالغثيان من ذكر القيء أو الفضلاتِ، لكننا اليوم نحمل هموم كائناتٍ صغيرة، وتعتمد علينا اعتماداً كلياً في الحياة.
ننظفهم ونطعمهم ونعطيهم الأمان، ونُحسِّن شكلَ العالم في عيونهم؛ ليكونوا غداً قادرين على أيامهم في هذه الدنيا.
الأمُّ التي تهزُّ المهدَ تحكُم العرش؛ فكيف بأمٍّ لا تستطيع القيامَ من سريرها صباحاً من شدة الألم!
كيف بأمٍّ قررَت أنَّ طريقَ الاستسلام لأحزان الدنيا التي تطال الجميعَ هو الحلُّ الوحيدُ المتاح أمامها!
كيف بأمٍّ لا تدرك قيمتَها كأمٍّ، وأنها لا تمتلك ترفَ الاستسلام أبداً؛ فإنْ هي استسلمَتْ… أطفأ العالَم أنوارَه وضاع!
قومي الآن.. لا بعد دقيقة واحدة، وغيري ما تريدين تغييره بيدكِ، وانتزعي حقك بأظافركِ، وعلِّمي صغيركِ بنفسكِ، فلا أحد يشفق على أمٍّ أختارَت ترْك المقاومة، ووقفَت تخبر الجميعَ أنها عاجزةٌ عن الحياة.
إنْ خُلِقَت الحيلة في الدنيا فقد خُلِقَت للأمهاتِ، وإنْ خُلِقَت العافية فهي أجدرُ بالأمهاتِ، وإنْ خُلِقَت الحياة فهي حتمًا أمٌّ للجميع.
أيتها الأمهاتُ.. هل نجحَت كلماتي في وصف عظمة أن تكوني أمّاً، في تفنيد خطورة مهمتكِ في هذا العالَم؟ لا تتركي الكلماتِ معلَّقةً أبداً، بل اصنعي منها حياةً لصغاركِ؛ فيوماً ما سترحلين وتبقى أعمالُكِ تثمر في أرواح أبناء أنجبتِهم بالألم وعلمتِهم أنَّ الحياة تُشرِقُ من قلب الألم.
رأيتُ زوجاتِ الأسرى في غزة.. تلك الطائفة كانت الأعجب من بين فئاتِ الأمهات.. نُطف مهربة، وإنجاب صغار بلا آباء، وحمول تقصم الظَّهر يحملنها وحدهنَّ، ومساندة وايمان حقيقيان بالقضية.
ورأيتُ أمهات سوريا الهاربات من الموت والقصف في تركيا ومصر.. مشاريع ناجحة لإطعام الصغار، وصبر وثبات، والدموع تملأ عيونهنَّ – بلا شك- لكن الجَلَد والصبر وروح الحياة تلوِّن الأرض خَضاراً تحت أقدام صغارهنَّ.
ورأيتُ زوجاتِ المعتقلين في مصر يحملنَ ما لا يطيق الرجالُ حملَه في الزياراتِ، ويتحملنَ تعنُّت السجون وطوابير التفتيش، ويقفنَ في ظهور رجالهنَّ في قوة نعرف تماماً أنها تحمل كلَّ ألوان الضَّعف والحزن بداخلها، لكنها تبتسم وتواصِل المسيرَ، وتعلِّم الصغارَ درسَهم الأولَ في هذا العالم: "سيروا رغم أنف الألمِ، وعمّروا هذه الدنيا، وأروا اللهَ من أنفسِكم خيراً، واصبِروا على البلاء؛ لأنَّ هذا هو طريقُ النجاة وحدَه في الدنيا والآخرة".