الأدب هو ذاكرة الشعوب الحية والعين التي ترصد وتدون خيالات البشر، وحيواتهم، ومشاعرهم، وأفكارهم، وهو الجسر الذي يمتد بين جيل وجيل.
تمتلئ قصصنا الشعبية، وتراثنا السردي، وأساطيرنا وحكايات الأجداد بنماذج وشخوص وُسموا بالشر. وترسّخت لدينا هذه الصفة فلم نعد نراهم إلا كذلك، مثل زوجة الأب والحماة، والإخوة غير الأشقاء، وما إلى ذلك من الشخوص و"الكراكتيرز" الذين قد نصادفهم في حياتنا. ورغم أن الوقت تغير والحياة تطورت إلى ما هو أبعد وأنصف من ثنائية الخير والشر التي بني عليها التاريخ الأدبي والفلسفي للشعوب، إلا أننا لا نزال إلى حد اليوم هذا ننظر إلى هذه الشخصيات بالكثير من التحفز والريبة والآراء المسبقة، فهي شريرة، إلى أن تثبت العكس، مع أن الأصل في الإنسان هو الخير.
العقل الجماعي تعامل أيضا مع هذه النماذج وفق نظرية التراكم، فخزن ملامحها الشريرة القاسية بإصرار شديد، ليس فقط داخل الموروث الثقافي العربي بل وفي الثقافات الغربية أيضا، وقصة سندريلا التي كانت مضطهدة من قبل زوجة أبيها، خير دليل.
مصطلح "زوجة الأب" يحيلنا بالضرورة على ذاكرة بصرية معينة هي المرأة ذات الملامح القاسية، المنافقة، الكاذبة، والجميلة غالبا، لأن جمالها يعمي عيني الأب عن رؤية شرورها، أما "الحماة"، فهي العجوز الشمطاء، ذات الفم المقوس والحاجبين المقرونين، والنظرة الماكرة، والخطوات القصيرة المسرعة. ولا داعي أن نشير هنا، إلى أن هذه الصورة لم تعد موجودة تقريبا في عصرنا الحالي، فزوجة الأب يمكن أن تكون سيدة مثقفة، راقية، وناجحة اجتماعيا، ونفس الشيء ينطبق على الحماة.
تأسست هذه النظرة، عندما كان الإنسان يقسم العالم إلى نصفين: الخير والشر، فالإنسان وكذلك الأرباب، في ذلك العصر، إما أن يكونوا خيرين أو أن يكونوا أشرارا، ولا سبيل إلى ما هو وسط بينهما، لكن مع مجيء فلاسفة التنوير وشعراء مثل شكسبير، بدأت هذه الثنائية تختفي، لتحل محلها، نظرة جديدة مفادها أن لدى كل منا قدر من الخير يعادل الشر، وأن الاثنين لا يمكن فصلهما، فهما مرتبطان ببعضهما ارتباطا وثيقا، وانتفاء الواحد منهما ينفي بالضرورة وجود الثاني.
رغم ذلك، لم تتغير نظرتنا إلى شخصيات معينة، مثل شخصية زوجة الأب، التي هي دائما شريرة بالضرورة، وبالفطرة. فكيف نحسم مع هذا التاريخ؟ أو ربما السؤال الأفضل هو كيف نقتلع من عقلنا الجماعي بعض الحقائق والثوابت التي لم تعد كذلك؟
جميعنا يعرف أن هناك زوجات أب طيبات، وحنونات، ربين أجيالا بأكملها من أبناء لا ينتمون لهن، وجميعنا يعرف أن هناك حموات يضحين بكل شيء مقابل إسعاد أبنائهن وزوجاتهن، والإخوة غير الأشقاء، ليسوا دائما أعداء، بل في أحيان كثيرة، نصرة ومحبة.
اليوم مع تطور نظرتنا للحياة وتعاملنا مع الآخر، ومع اكتشافنا، أن الآخر هو نحن أو ما نعكسه لديه، وأننا نمر من خلاله إلى أنفسنا، أصبحنا ملزمين بإعادة النظر في هذه الثوابت المضرة بمجتمعاتنا.
وأعتقد أن السبيل الوحيد لذلك هو الأدب، لأن الأدب هو ذاكرة الشعوب الحية، والعين التي ترصد وتدون خيالات البشر، وحيواتهم، ومشاعرهم، وأفكارهم، وهو الجسر الذي يمتد بين جيل وجيل.
نحن الآن في أشد الحاجة إلى أدب جديد، يحسم مع ثوابت الماضي وركائزه، ويتعامل مع واقعنا الجديد، الواقع الذي لا يتأسس على الفصل، والتقسيم والثنائيات وإنما على فكرة توحد الإنسان مع عالمه وما هو حوله، وعلى رغبته في إيجاد الوسائل والأدوات التي تربط عالمه الخارجي بعالمه الداخلي.
– تم نشر هذه التدوينة في موقع صحيفة العرب
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.