تحاصرنا الأدعية والابتهالات الصحيحة والمبتدعة في هذه الليالي من كل حدب وصوب، وفي كل وسائل التواصل الاجتماعي من كل فج عميق، لدرجة أنني أحياناً أسأل نفسي: هل هي محض الصدفة أو هناك مبتدع يعمل بنظام على نشر دعاء غروب أول العشر وشروق خامس العشر؟!
بعض مَن يرسل رسائل جماعية لأصدقائه حول فضل العشر، التي أقسم بها الله في القرآن يضع سماعات الرأس ويستمع إلى الموسيقى في نفس الوقت الذي يرسل فيه لأصحابه التذكير بواجبات العشر، برسائل منمقة مزركشة مصممة بطريقة احترافية وخط الكوفة أو الرقعة أو العثماني؛ لتشعر وكأنها حديث صحيح، فهل أصبح الدين فلكلوراً وتقليداً وبعيداً عن المضمون؟ ولماذا شعوب اللسان العربي الذي يفهم القرآن جيداً في أسوأ حالاتها؟!
إن نظرة شاخصة للموضوع سوف تدلك على قصاصين وحكواتية الدين قد احتلوا المشهد الديني ببرامج يقال إنها دينية وضخ إعلامي هائل، يتحدثون بضحكات براقة ووجوه باسمة، أمام كاميرا احترافية وشاشات HD، يسلبون عقول الناس بموسيقى دينية ترافق كلامهم المعسول أو نغمة تنهيدية لاستجلاب الدموع أثناء دعاء رتبت قوافيه ليصبح نغمة جوال فيما بعد، كل هذه البرامج تذاع على قنوات أنشأها مالكوها لطرح الإسلام الحديث (المودرن) أو لتبييض لقنواتهم الأخرى مع تراجع الدعاة الحقيقيين عن مواكبة العصر الميدياوي الفيسبوكي الإنستغرامي، بحجج صحيحة أو مغلوطة، فأصبحنا نرى أفيخاي أدرعي يطرح على صفحته شواهد قرآنية ولا نستغرب لاحقاً أن يصبح مقدماً لبرامج دينية تنشر ثقافة التسامح، لمَ لا وقد تحول الكثير من الإيمانيات لدينا إلى فلكلور؟ فنحن نسقي المولود ماء زمزم وربما كلفنا العناء الكثير لشحنه من الديار المقدسة ، فهل زمزمنا أفكارنا؟
هل فكرنا يوماً أن زمزم تفجّر لامرأة ضعيفة تائهة في الصحاري سعت بين الصفا والمروة، ثم دعت، ألم يكن الله قادراً مسبقاً أن يرسل جبريل ليضرب الأرض بقدمه ويفجر زمزم؟ بلى، بل طلب منا العمل، وهل السعي بين الجبل والوادي بدون خطة يخلق الماء؟ أكيد لا.
لكن العبد في التفكير والرب في التدبير، إذاً لماذا نيأس؟ لماذا نقول إننا فشلنا لأننا لم نخطط؟ لقد سألته هاجر التي هاجرت لزوجها النبي الذي سلم أمره لله فيها وبابنه : (لماذا تتركنا هاهنا)؟ لا بشر ولا حجر؟ فلم يرد زوج هاجر! ثم قالت له: آلله أمرك؟ قال: نعم. قالت: لا يضيعنا الله.
فهل ضيعهم؟
لقد جعل القرآن والتاريخ يحكي قصتهم، لقد جعل زمزم رمزاً وحوله بنى التاريخ والجغرافيا والقبائل، لقد أصبحت القصة والعبرة، وكم من مناسك الحج من عبر وكم في هذه الأراضي المقدسة من حكايات، يتعلم منها الجميع ويذاكرها ويستفيد منها الآخرون ويترجمونها، إلا اللسان العربي، لقد عجز عن تكرار التجارب وانحدر بالحج إلى جعله قضية يتأرجح بها السياسيون يميناً وشمالاً، ويقولون في ذلك: (ولكم في رسول الله أسوة حسنة)، نعم يجب أن يكون الأسوة الحسنة عندما حاول الاعتمار ومنعته قريش، حينها سجل التاريخ معنى السياسي البارع، الذي ذهب بثياب الإحرام إلى أرضه بعد هزيمة قريش، واصطحب معه الخراف للذبح وهي دلالة على أن النية العمرة وليس الحرب، وجمع معه غير المسلمين ليحشد لقضيته من دون تنازل، فعندما حار فكره، ولم يأته الوحي، جمع أصحابه المسلمين للشورى وسمعهم، فلم يستبد برأيه،
وحاول تحاشي جيش قريش بقيادة الصحابي الجليل ابن الوليد، واصطحب معه غير المسلمين لأداء العمرة؛ ليحرج قريش ويظهر معنى ثياب الإحرام في الأشهر الحرام، فأنا جئت معتمراً لا مقاتلاً، وأفضى ذلك كله إلى صلح الحديبية، وتلك كانت شرارة بدء قناعة ابن الوليد بالإسلام، عندما أسر في نفسه نية الهجوم على المسلمين ورفاقهم أثناء صلاة العصر بعد أن رأى اجتماعهم على الظهر، فأنزل الله عليهم الوحي بصلاة الحرب، فلما صلوها قال ابن الوليد: إنهم قوم ممنوعون، ومن المنع نتابع، فلقد منعتهم الناقة التي بركت في الأرض ولم تسر من متابعة السير، فكانت إشارة فهمها اللبيب محمد قائلاً: (حبسها حابس فيل أبرهة)، فالمخلصون لهم معالم على الطريق ترشدهم أنهم تائهون في الطريق الصحيح، طالما كانت النوايا صادقة، فلا يضيع حق وراءه مُطالب لكن يضيع إن كان وراءه مَطالب، وهذه المطالب شخصية لطالب الحق.
أيها المعتمرون والحاجون والناسكون هاتوا لنا من هذه الديار معاني إيمانية نشد بها أزر القضية، نروي فيها نبته خضراء تزهر في قلوبنا وردة تقول لنا: (لا تحزنوا إن الله معكم)، هاتوا لنا رشفة من بئر الحديبية التي فاضت بعد جفاف بفعل دعاء المرسلين، حتى ندعو الدعاء الصحيح ولا نستخدم نثريات القصاصين والحكواتية، أوصلوا سلامنا لشعب مكة وقولوا لها أضحت البلاد كلها شعب مكة، حوصرنا في الآبار ولم تمر قافلة العزيز بعد، لكنها ستمر فزمزم أخبرتنا بذلك، ونحن نصدقها، فيقيننا بالله يقيناً.