حسنًا.. كثيرًا ما أفكر في هذا السؤال:
ما هي الأزمة الرئيسة للإنسان المعاصر (ما بعد الحداثي) ولماذا لا يشعر بالسعادة بعد كل هذا التقدم العلمي والتكنولوجي؟
بعد سنوات من التفكير انتقيت من بين الإجابات الكثيرة التي توصلت لها إجابة وحيدة أظنها الأنسب لهذا السؤال، والتي يمكن صياغتها على النحو التالي:
إن الأزمة الأساسية لدى إنسان ما بعد الحداثة هي شعوره بعدم كفاية الوقت، الأمر الذي أورثه روحًا قلقة مضطربة؛ فتجده دائمًا في حالة من اللهاث والعدو كأن هناك شيئًا خفيًّا يطارده فلا يلبث أن يخوض تجربة حتى تتنازعه نفسه لتجربة أخرى وينشغل باله دائمًا بما يمكن عمله أو إنجازه فيما بعد قبل أن يتم ما بين يديه كما تزدحم قائمة المؤجلات لديه بالكثير من الأشياء والأمور والرغبات ويزيد الازدحام باضطراد بمرور الوقت والعمر، فيصاب في النهاية بالإحباط ويتملكه شعور بالفراغ والعبث واللا جدوى.
والحل؟
الحل في الحج!
أعتقد أن أهم دور للعبادات أنها وسيلة لانتشال الإنسان من حالة التيه والقلق التي يتخبط فيها في هذا العصر حيث يتواصل من خلالها مع السماء فتتضح له الرؤية وتنتظم الأولويات، وكلما انغمس في العبادة وأخلص لها كلما ارتقى واتسعت رؤيته، ولذلك فإن الحج في هذا الصدد يعد أفضل عبادة تؤدي هذا الدور.
ما أقصده بالحج هنا ليس الأداء الحرفي لمناسك الحج من سعي وطواف ورمي جمرات (مع الاحتفاظ بكامل التقديس لهذه المناسك)، لكن ما أقصده هو حالة السمو والارتقاء والتحليق التي يصل لها الحاج والتي أظن أن السر وراءها هو الطول النسبي لفترة الحج وتواصلها ليل نهار بلا انقطاع على عكس الصلاة أو الصيام.
لا بد أن من سبق له الحج قد فهم الآن ما أعنيه وأنه يشعر بالحنين للعودة لتلك الحالة الشفافة الراقية وأود أن أطمئنه أنه يمكنه أن يستعيد تلك الحالة إذا فهم أنه وصل لها ليس فقط بفضل المناسك والأماكن المقدسة التي كان فيها (مع التأكيد مرة أخرى على قدسيتها) بقدر ما كان بفضل أنه أتاح لروحه فترة كافيه للانقطاع عن الدنيا وتفاهتها والتوجه بالكلية إلى خالقها وبارئها، فارتقت وارتفعت إلى درجات ومدارج لم يتح لها الوصول إليها من قبل تمامًا كالرياضي الذي يرتفع مستواه بزيادة الوقت الذي يتمرن فيه وزيادة عدد المباريات التي يخوضها أو كالطالب الذي يزداد استيعابه وفهمه كلما مر عليه وقت أطول وهو يستذكر دروسه.
وبهذا المفهوم يمكن لكل إنسان أن يحج في أي وقت وفي أي مكان والحمد لله أن رمضان على الأبواب وعلى كل من يرغب في الوصول لحالة الطمأنينة والسكينة التي سمع عنها من الحجيج أو تذوقها هو نفسه من قبل أن يهيئ نفسه لإحياء سنة الاعتكاف بأن يرتدي أبسط ثيابه ويذهب إلى أقرب مسجد إليه.
يترك الدنيا على عتباته. يمنح روحه وقلبه وعقله بالكامل إلى الله. ينتزع الحياة بكل تفاصيها من ذهنه، ويضبط تردد الاستقبال لديه على موجات السماء. حيث يخفت كل صوت وكل رغبة وكل شهوة، ينقطع عن العالم وعن الأهل والأصدقاء ويصغي لصوت أعماقه. يفرد أشرعة قلبه لتستقبل نسمات الهداية الإلهية فتوجهه إلى الخلاص والنجاة والسمو، يتوجه بكل جوارحه ومجامع قلبه إلى السميع العليم. يناجيه. ويدعوه، ويشكو إليه همه وحزنه وآلامه، يفتح نوافذ قلبه وروحه على القرآن، يعانق معانيه، ويمسد النفس بحروفه. ويضمد جروح الفؤاد والروح بآياته وسوره.
ولا يخرج من المسجد إلا بعد أن يصل إلى اللحظة التي تنقشع فيها السحب وتنجلي عنها الحجب، فتبهت صورة المستقبل الدنيوي القريب حتى تتلاشى وتزهو صورة المستقبل الأخروي، وتخفت أصوات الشهوة والرغبة والهوى حتى تنقطع وتصدح أصوات الحق والخير والجمال، تتضاءل الدنيا بكل ما فيها من حروب وأمراض وقلق واضطراب، وبكل ما فيها من متع وملذات وأفراح مؤقته ومحدودة.
ثم يبدأ كل شيء في احتلال مكانه الصحيح ويبدو فجأة أن الفوضى والاضطراب المألوفين في حياتنا قد تحولا إلى حالة من السكينة والطمأنينة والسمو، وإن كل الأجزاء المتناثرة في لغز القطع الذي نسميه "الحياة" قد انتظمت وتداخلت فجأة وكونت نموذجًا له معنى وجوهر ورسالة.
عندئذ نتريث ونهدأ ونلتقط أنفاسنا وقد تملكتنا قناعة بأن:
لأسئلتنا إجابة، ولمشكلاتنا حلًّا، ولحياتنا معنى. ويتزامن ميلاد الصباح في الأفق مع انبثاق نور شفاف يشرق في أعماقنا فيضيء لنا الطريق، وتنبت لأرواحنا أجنحة تحلق بنا في الأعالي، فنطل على الدنيا بعزة وكبرياء وزهد، ونتذوق بصدق قول الحبيب عليه الصلاة والسلام:
"إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.