حديث للرجال الغافلين

ثم تصل إلى المراحل الأخيرة التي تبدأ قواك فيها في النفاذ، وتحتاج إلى دخول الحمام كل نصف ساعة على الأقل لأنه لا مكان في جسمك لأي شيء خلاف ذلك الطفل، ويصبح الضغط من الداخل غير محتمل لدرجة تمنعك من النوم

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/26 الساعة 06:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/26 الساعة 06:44 بتوقيت غرينتش

أعرف نوعية المقالات التي قد يتوقعها المرء عندما يقرأ عنواناً مثل هذا، ولكن في الحقيقة الكلام لن يتعلق بالرجال، بل بالنساء، ولكن لأن النساء يعرفنه عن ظهر قلب أو على الأقل جزء كبير منهن فسوف نخصص هذه المرة للإخوة الرجال الذين غالباً ما يبقيهم المجتمع من أمهات وآباء وتعليم وخلافه في الظلام لفترة طويلة من حياتهم، ثم تأتي زوجاتهم ويفعلن المثل لأن هذا ما ينبغي، لا يجب على المرأة أن تظهر لزوجها أياً من تفاصيل حياتها الخاصة فيما يتعلق بالحمل والولادة والمرض وإلخ، عليها أن تتعب وتعاني في صمت وإلا رآها زوجها ضعيفة وإلا: ذهب للبحث عن أخرى!

في البداية لنتحدث عن الحمل، طوال تسعة أشهر من الحمل، الأشهر الأولى غالباً ما تتميز برونق خاص، آلام بسيطة في المعدة والظهر، ورغبة في القيء تزداد حتى تصل أعلى درجاتها قبل أن تبدأ بالهبوط مجدداُ، تخيل أنك تعاني تسمماً غذائياً تدوم أعراضه لمدة شهرين أو ثلاثة وفي بعض الحالات تبقى الأعراض طوال التسعة أشهر. لا تستطيع أن تأكل أو تشرب كما تريد، على الرغم من أنك جائع وترغب في ذلك، هناك أيضاً الكآبة والاستفزاز غير المبررين بسبب هرمونات وصلت حدها الأعلى فأصبحت تحس بالضيق دون سبب وتبكي دون أن تتحكم في نفسك، وتفقد القدرة على الاستمتاع حتى بالأمور التي غالباً ما تفرحك.

ما أن تنتهي هذه المرحلة حتى تدخل في رحلة من حرقة المعدة وارتجاع المريء والإمساك والغازات، نعم كل هذه الأعراض معاً! في الفصل الثاني تبدأ عضلات جسمك بالتمدد وأربطة معدتك تتفسخ حتى تفسح مجالاً للطفل، وجلدك يتضاعف بنفس الطريقة، فيما عظام الحوض تتباعد بشكل ملحوظ ويصبح عمودك الفقري ضعيفاً بسبب تمدد الأربطة فتؤلمك أقل حركة خاطئة لم تكن تلقي لها بالاً سابقاً. وحتى لا ننسى حركة الطفل التي قد تفاجئك في أية لحظة فتضرب المثانة، أو الحجاب الحاجز وتحس بأنك تلقيت قبضة قاضية ولكن من الداخل.

ثم تصل إلى المراحل الأخيرة التي تبدأ قواك فيها في النفاذ، وتحتاج إلى دخول الحمام كل نصف ساعة على الأقل لأنه لا مكان في جسمك لأي شيء خلاف ذلك الطفل، ويصبح الضغط من الداخل غير محتمل لدرجة تمنعك من النوم، وتحس بأن حركة قدمه وهو يمدها إلى الخارج تكاد تخترق جلدك فتطبطب عليه في محاول يائسة لدفعه للتوقف عن أداء تمارينه الرياضية هذه. ثم يصبح ظهرك مقوساً باتجاه بطنك بطريقة لم تكن تعرف أنها ممكنة في حين أن حركتك تصبح بطيئة وثقيلة وتحتاج لكل العون اللازم لتغير طريقة جلوسك أو تقف أو تستلقي. المشي أو صعود الدرج يتحول إلى ما يشبه جري ماراثون يتعالى فيه الشهيق والزفير وتجتهد لكي تلتقط نفساً عميقاً يكفيك.

كل ذلك وأنا لم أتحدث عن متطلبات الطعام والشراب والتغذية المطلوبة منك إن أنت قررت أن تربي ابنك أو ابنتك بضمير وتحافظ عليها خاليين من الملونات والمفسدات وغيره من الأطعمة التي تؤخر النمو. وأنت إلى ذلك مطالب بممارسة الرياضة والمشي حتى تساعده في الحصول على الدم اللازم وتساعد نفسك عند الولادة لتحمل مجهود الدفع الذي ستقوم به. أضف إلى ذلك كل واجباتك الأخرى من رعاية زوج وأبناء آخرين وربما وظيفة وواجبات اجتماعية لا تنتهي. وهذا الباب الحديث فيه طويل..

فأنت لا يمكن لك أن تتوقف عن كل ما اعتدت القيام به من عمل ولا رعاية لأنك ببساطة يجب أن تكون شاكراً لكونك تحمل طفلاً يتمناه الملايين من الناس، ولا أعرف لماذا يكون هناك تعارض بعين أن تكون سعيداً بحملك وبين أن تعبر عن تعبك أو تطلب من الناس تقديره. الحمل ولا إنجاب والأمومة تحولا إلى تحصيل حاصل حتى أضحت النساء يتعاملن معها والمجتمع ككل وكأنها أمور عادية، لا معجزات إلهية أو أمانات تدخل الناس الجنة والنار.

ولكن عندما يحين موعد الولادة التي تنتظرها بفارغ الصبر تعود حقيقة الأمر لتصدمك، في الأسابيع الأخيرة تبدأ في تجرع ألم لن يمر عليك في حياتك كلها إلا في هذه اللحظات، وكأن سكيناً تقطع أوصلاك من الداخل، والحقيقة أن ما يحدث هو أن عظام الحوض تتباعد والأربطة حولها تمدد حتى تسمح لطفلك الذي هو بحجم البطيخة من الخروج من فراغ بحجم الليمونة، كل جزء فيك يتعرض لألم لا يضاهيه ألم آخر.. الأمر يتفاوت ولكن المعروف أنه كلما ضاق الحوض أصبحت العملية أصعب وأشد.. وشيئاً فشيئاً يودي بك الألم إلى إحساس بالدوار والغثيان وتفقد قدرتك التحمل حتى تأتي اللحظات التي يحتاجون فيها إلى "قوة دفعك"، فتبحث عنها وتبدأ في الدفع حتى يخرج كل جزء من ذلك الجسد، وتفقد أنت أي إحساس بأي شيء وكل ما يهمك هو سلامة ذلك المخلوق وإن كان يتنفس أم لا.. وتغدو ساعات الجحيم تلك ماضياً لا يذكر في دقائق.

ربما يعتقد البعض أنني بالغت في وصف الأمر، ولكن يعلم الله أنني رأفت بكم ولم أحكِ سوى المتوسط من كل شيء، وأنا أعرف أن من النساء من تمر بأضعاف ذلك.. فيا ليت الرجال الذين يعيشون مع نسائهم خلال تجارب الحمل والولادة يذكرون أنفسهم بهذه الحقائق في كل مرة، ولا ليتهم يدركون أن عدم رؤيتهم لما يحدث في داخل ذلك الجسد لا تعني عدم حدوثه، ويا ليتهم يتحلون بشيء من الإحساس الذي يوفر لهم قدرة على تفهم أن المرأة حتى وإن كانت تقوم بكل أعمالها وتعد لك طعامك وترتب لك بيتك وتهتم بأطفالك وربما تعمل أيضاً بينما تحمل جنينها فهي لا تفعل ذلك لأنه "عادي" و"بسيط"، بل لأنها لا تملك سوى أن تفعل، ولأنها ترى في كل هذا المجهود باباً لطاقة سعادة ورضا قد لا تجدها أنت في مثل ما تمر به هي.

لذلك ربما يكون من اللطيف أن تتوقف في يوم ما وبدلاً من أن تطلب منها أن تعد لك وجبة طعامك أو تجهز لك ملابس العمل أو غيرها من الأعمال اليومية، ربما يمكنك أن تجعز ما عتدته من اعتمادية ودلال وتفعل ذلك بنفسك؟ لا أعتقد بأن عاملك سوف ينهار إن حصل شيء كهذا. كل هذا وأنا لم أتطرق بعد لما يحدث بعد أن يعود هذا الطفل إلى لمنزل، يستيقظ في الليلة كل ساعتين ليتناول طعامه الذي تصنعه له هذه الأم من دمها وماء جسدها، ولم أتحدث عن الضغط البدني والعصبي الذي يرافق تلك الشهور الأولى..

يصيبني العجب من الرجال الذين يعاملون زوجاتهم بلا رحمة ولا شفقة، ولكن أعتقد أن الأمر يعود بالدرجة الأولى للنموذج الذي خلفه والداه له كجزء من مجتمع يداري شؤون نسائه خلف الأبواب المغلقة، ولأمه التي لم تعلمه من أمور النساء شيئاً ولا عودته أن يقدر خدمتها له، لا أن يتعامل معها على أنها تحصيل حاصل، ولأم زوجته التي تأخذ ابنتها إذا أنجبت عندها لتقضي فترة النفاس حتى لا يتعب منها زوجها ولا يضيق ذرعاً بتعبتها. لقد مرّ علي من المواقف ما يفوق القدرة على التصديق في هذا الباب، رجال يدفعون بزوجاتهم إلى بيوت أهلهم إذا مرضن أو تعبن وكأنهن صالحات للحياة فقط إن كن في كامل قوتهن، وينسى هذا الرجل أن أمه كانت في موضع زوجته هذه، فاتقوا الله في نسائكم وضعوا أمام أعينكم كل الألم والأذى الذي يختبرنه فيما تنعمون بالبنات والبنين وتتفاخرون بالألقاب وتورثون الأنساب.

تم نشر هذه التدوينة على موقع الجزيرة مدونات

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد