أكتب لكِ أم أكتب عنكِ أم أفعل كلا الأمرين يا أمي.. يقول لي صديقي الذي لم أعرّفك به من قبل إن المشكلة ليست فيمن حولي أو معهم، إنما الحقيقة أنكِ ما زلتِ تحيين داخل قلبي وصدري، تستوطنين المكان منذ سنوات أربع، لم ترحلي عنه، ويزيد تشبثك بالمكان يوماً بعد يوم.
قال لي صديقي اكتبي عنها كل يوم، وأنا أخشى أن أفعل يا أمي، ففعل الكتابة ذاته بات مؤلماً لي وبشدة، لم أخبركِ أنِّي مذ وصلت إلى القاهرة قبل سبعة أشهر كنت أقوم بإخراج كل ذكرياتي التي دوَّنتها في دفاتري القديمة لأقرأها، كنت أظن أني سأجد فيها السلوى، بيد أني لم أجد إلا الضجر والوجع المتراكم.
رحيل أبي والانتقال والفشل والعمل، حروب غزَّة والمسيرات والمظاهرات، الاعتصام والصحب والموت، كل شيء في أوراقي يا أمي كان يدعوني لأن أكفَّ عن المزيد، أن أتوقَّف عن سكب مشاعري عليها، تدفعني لكي أغض الطرف عنها فأتناساها ولا أحفظها، ربما تعلق بروحي أكثر فلا أنسى! وتتشبث بتلابيب عقلي فلا ترحل! ومثلها أنتِ يا أمي، أخشى إن كتبتك أن أنساكِ، أن أسجل هذا الشعور المتأجج في صدري نحوك فيخمد.
تعلمين كم كتبت عن أبي، الكثير والكثير… اليوم حين أقرأ ما كتبت لا أذكر شعوري الذي دفعني للكتابة حينها، أحنُّ إليه وأشتاقه، لكنه اشتياق لا يوجع مثلما كان، ومثلما يوجعني اشتياقي إليكِ يا أمي، كنت حصناً يحميني يا أمي، وظهراً ألقي عليه أحمال الطريق، فتحملين عني، وتتحملين جنوني وصَخَبي، تحفظين قلبي من شعوره الباهت بالغربة والوحدة بين الناس، تدفعين عني من دون أن تدري عبء العلاقات المرهقة المستنزفة لروحي وقلبي.
أتعلمين يا أمي.. ما زلت أسمع صوتك الحنون ينادي عليَّ من الغرفة المجاورة، بنبرة الصوت التي اعتدتها، هل أخبرتك أنني أجيبك وأهرع إليكِ لأستجيب لطلبك، حتى أنتبه في وسط المسافة بين حجرتي وحجرتك المظلمة أنكِ لستِ هنا، لم تعودي تناديني.
صوتك داخلي وحدي يا أمي لم تسمعه أذني، إنما سمعه قلبي فهرع إليكِ، بيد أنه توقَّف حين أدرك أنكِ لم تعودي هنا، ولن تطلبي مني شيئاً! منذ عدت إلى القاهرة من رحلتي التي استغرقت ثلاث سنوات إلا بضعة أشهر وأنا أسمع نفس النداء بنبرة الصوت ذاتها، ورد الفعل ذاته، أقوم به دون وعي، لأقف في منتصف المسافة تماماً، ثم أنفجر في البكاء.
هل أخبرتُك يا أمي أن أخي قام بتغيير نظام حجرتك! يقول لي هكذا أفضل، لكي لا تظل عالقة في الذاكرة بنظامها الذي كان في الأيام الأخيرة لكِ فيها، وافقته متحمسة، وفي داخلي كنت أبكي وأرتب غرفتك في عقلي تماماً كما كانت وأنتِ فيها، ثم لم أعد أرغب في التذكر، فلم أعد أدخلها إلا نادراً، مجبرة على ذلك دون خيار في الأمر.
فإذا فعلت هل تصدقيني إذا أخبرتكِ أنني لا أراها إلا كما كانت آخر مرة تجولت روحكِ فيها! هنا تماماً بجوار الباب حين أدخل على اليسار يقابلني سريرك، فأرى وجهك ولا أذكر ملامحه، إلا كما رأيتك آخر مرة عليه، متعباً للغاية، مجهداً للغاية، وعينكِ تبحث عني وتطمئن حين تراني، وعلى هذا الحائط الرفيع أعلى رأسك صورة أبي كما تركتها تماماً، لم نغير مكانها، وبجوار النافذة يجلس التلفاز صامتاً فوق طاولته المميزة على إذاعة القرآن الكريم، كما تركتها أنتِ وكنتِ تحبين تشغيلها والاستماع إليها بهدوء وسكينة كما كنتِ دائماً، وقد وضعتُ غطاء رقيقاً فوق شاشته، بعد أن تملكه الصمت منذ رحيلك يا أمي.
وهنا كرسيّ المفضل، حيث كنت أجلس أمامك كل ليلة أقصُّ عليكِ نهاري كله في حكايا متلاحقة، وأنتِ مشغولة اليد بالإبرة والخيط، تصلحين شيئاً ما، فأتوقف غاضبة كالأطفال، وأتهمكِ بأنكِ لا تهتمين لما أحكي، تخلعين نظارتك وتتركين ما بيديكِ وتبتسمين: "سمعاكي يا أسماء كنتِ بتقولي كذا…"، ليهدأ غضبي الطفولي المعتاد، وأعود للثرثرة دون توقف وأنتِ تبتسمين لفعلي وحديثي.
أتدرين يا أمي.. توقفت لدقيقة أسأل فيها نفسي لماذا أكتب إليكِ ما تعرفينه جيداً؟! والحقُّ أنه لا جواب لديَّ على السؤال، أنا فقط اشتقت إليكِ كثيراً، ذلك الشوق الذي يكسر الضلوع، ويحتل القلب تماماً، ويجتاح الروح، ويجعلني أدير للعالم كله ظهري المكسور وأبكي.
أشتاق إلى ثرثرة لا تتوقف معكِ، لا أحكي فيها صباحي كيف كان، لكن أحكي لكِ عن سنوات أربع مرَّت دونكِ كيف كانت! كيف أقاوم نفسي كل صباح لأفتح عيني وأجر نفسي من على السرير جراً، وأنا أتجنَّب الاعتراف أنكِ لستِ هنا، أنّي لن أرى الآن وجهك، ولن أسمع صوتك، كيف أنّي أهرب من المنزل كل يوم أجوب الشوارع وأرتشف القهوة التي أدمنتها مؤخراً، وأنا أدفن فيها حزني وشوقي.
لذا قررت ألا أكتبك يا أمي، أن أتوقف عن التدوين عنكِ وإليكِ، ولن أستمع لصديقي الذي طلب مني أن أكتب كلَّ يوم، وسأخبئك بداخل صدري وأخفيكِ من النسيان بين نبضات قلبي، بين كل نبضة والثانية هناك ارتجافة تنطق باسمك دائماً، أن أتوقف عن عدِّ السنوات يا أمي، فعقلي يتوقف تماماً عند يوم كل ذكرى ميلاد أو رحيل، فيخشى من حساب كم مرَّ، لأنه لن يعلم أبداً كم بقي، وانتظار اللقاء غير المعلوم موعده مربك يا أمي! مربك للغاية! أعلم أنكِ لم تختاري الرحيل طواعية، وإنما هي أقدار الله التي نتقلب فيها، رضينا بها أم لم نرضَ، صبرنا أم جزعنا، بيد أني أعرف أنكِ الآن بخير، بل أثق تماماً أنكِ الآن بحال أفضل، ميلادك الرابع بعد الرحيل يا أمي، اقترب لقاؤنا عاماً آخر! أراكِ على خير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.