منذ أيام أعيد نشر مقطع لأحد من يسمون بالشيوخ يتحدث فيه عن السيدات اللواتي تأخذهن الغواية بكل سهولة من أجل قطعة ذهب، أو اللاتي استهلكت قلوبهن لكثرة التعامل مع الرجال، وكانت نصيحته للرجال أن يطلقوا الأولى ولا يتجوزوا الثانية. والحقيقة أن الناس لم تنتبه في الموضوع إلى أن هذا الرجل فضح أحد المتواجدين في مجلس الحديث والذي كان قد جاء ليستشيره في أمر زواجه من طالبة ماجستير وتعد للدكتوراه، فقال اسمه هكذا دون حرج وتحدث عن الفتاة التي ربما يعرفها آخرون ممن يعرفون لذلك الشاب وكأنها مستباحة العرض، يقول كم رجل دخل قلبها وكم رجل عرفت.
تحدث الرجل وهو يريد أن يقنع من حوله فيقول لهم: وهل لك يا فلان أن تملأ عينها بعد أن مرّ عليها كل هؤلاء الرجال؟ والقصد أنها يعني ستقارنه بآخرين ممن عرفت، ويبدو لي أن هم الرجل الشاغل هو في الحقيقة أن تكون الفتاة قطة مغمضة على حد تعبيره لا ترى في الرجال سوى زوجها لا لأنها ترى فيه خير رفيق وزوج، لا أبداً ولكن ببساطة لأنها لم تعرف غيره من الرجال. طيب وماذا عمن تزوجت من رجل آخر فمات زوجها أو التي سبق لها الزواج والانفصال، هل يدخلن في خانة المستعمل أيضاً أم أن لهن تخريجاً آخر؟ ألم تتعلق قلوبهن برجال آخرين؟ أليس من الوارد أن تقارن هي الآخرى بين زوجها الأول والثاني؟
ثم إن افتراض أن المرأة التي تجلس في بيتها ولا تخرج لعلم ولا عمل ولا أي نشاط إنساني طبيعي لن يتاح لها أن تتعلق ولا تهتم بالرجال أمر في غاية السذاجة. ما بالك والأفلام والمسلسلات وأبناء الجيران وأبناء الأقارب. يقولون نعم ولكن الفرص تزيد بالاحتكاك، أليست وظيفة الأخلاق أن تحكم في هذه الحالة؟ يعني أنت تربي ابنتك على أنها ريشة تأخذها الرياح حيث تشاء وتبين لها أن أي رجل ستلتقيه سيخطف قلبها وتتعلق به لذلك عليها أن تجلس في بيتها حتى تتحاشى الفتن؟ فأي تربية وتزكية هذه الذي يقال بأن الرجل مهتم بها؟ أي تزكية التي تجعل الرجال يسيرون بين الناس يسيؤون الظن في هذه وتلك فقط لأنها تكمل دراستها العليا مثلاً أو تذهب لصائغ الذهب؟
صحيح! ألم أقل لكم أن الرجل استنتج أن كل الصاغة قوادون يستدرجون النساء للرذيلة، وكل النساء اللواتي يذهبن للصاغة يجب تطليقهن، لأنه سمع عن امرأة باعت نفسها بقطعة ذهب "فالللصووو" على حد قوله. وهذا كما تعرفون منهج علمي دقيق في الاستنباط ووضع القواعد واستخدام الدليل، إذا أخطأ أحد الصاغة فكلهم أولاد حرام، وإذا أخطأت امرأة فلأنها ذهبت للصائغ وليس لأن هذا الصائغ تحديداً سيء الخلق وهذه المرأة تحديداً ضعيفة النفس. ثم إن المرأة لما اكتشفت أنها باعت "شرفها" من أجل قطعة ذهب فالصو طعنت الرجل بضعاً وثلاثين مرة، هكذا يحكي الرجل.
في منتصف الحديث يأتي "الشيخ" المربي المعلم الذي يتصدى لتزكية النفوس والتربية – كما كتب عنه – ويسترسل في الكلام عن الحور العين كلاماً مرسلاً أقرب لحكايات ألف ليلة وليلة، اللاتي لا يأتين بالمقززات من شؤون البشر، فهن لا يعرقن ولا يخرجن من بول ولا براز ولا حيض ولا نفاس ولا أي من الملوثات التي تخرب على الرجال شهوتهم في نساء الدنيا الفاللصوووو! فيا رجال لا تنظروا إلى نساء الدنيا ولا تبيعوا دينكم من أجل نساء "مايتبصلهمش" أصلاً.
ولا أعرف أين كان عقل هذا الإنسان وهو يتحدث، هل نسي مثلاً أنه إنسان مثل تلك المرأة التي يعايرها بإنسانيتها وطبيعتها التي خلقها الله عليها؟ هل نسي أن شخصه التي تتلفظ بهذه الألفاظ هي التي جاءت لأمه بنفاسها وحملها وتعبها؟ هل نسي أن حيض النساء اللواتي يعايرهن بطبيعتهن هو قدر الله الذي جعله سبباً ليتنفس هو وغيره هواء الحياة؟ هل نسي أن الظهور المحنية والثياب التي بليت والجسد الذي استهلك في نقص الغذاء وفقر الدم وهشاشة العظام، هل نسي أن هذا أثر حملها ورضاعها ونفاسها؟ فهل يكون جزاؤها أن يقال لها ما أنت بامرأة تستحق أن ينظر إليها؟ هل يكون جزاؤها أن يقال لها أنت امرأة فالصو؟ هل يكون جزاؤها أن يقال لها ما أنت وما قيمتك يا من تملأك النقائص أمام الحور العين الطاهرات؟ هل هذه هي التربية والتزكية التي تعلمها لشبابك يا شيخ؟
تعلم الرجال أن يملكوا أنفسهم في الدنيا لأن نساء الدنيا ناقصات قذرات، لا لأنه مطلوب منك كإنسان قبل أن تكون رجلاً أن تحكم نفسك فيما وكلك الله فيه من جسد وعقل وغريزة؟ تعلم الرجال أن النساء ناقصات قذرات ولا تأتي على ذكر نقصهم وبشريتهم هم؟ ولن أقول قذارتهم فلست أستطيع أن أفعل مثل ما فعلت. تعلم الرجال أن الحيض والنفاس والتعب أسباب للنفور من المرأة لا أسباب لتقدريها وإجلالها وحملها فوق الرؤوس والأعناق؟ قرأت آيات تتحدث عن الحور العين وبهائهن، وفاتك أن تتحدث عن أمه وزوجته وأخته التي تحمل وهناً على وهن، التي تحمل كرهاً وتضع كرهاً؟ هل تظن الحديث عن الأمرين حديث مختلف، ولكل مقام مقال؟ لا والله ما من مقام يصح فيه حديث كالذي أتيت به، وما من لقب تضعه قبل اسمك ولا علم تنسبه إلى نفسك يغفر لك ما قلت.
وسيبقى هذا الحال حتى تخرج على الناس كما خرجت هنا وفي مواضع أخرى وتتحدث بما يرضي الله ورسوله، وتتراجع عن هذا الظلم والبهتان والافتراء على إماء الله. تطعنون في أعراض النساء وتتحدثون عن الشرف وغض الطرف، ثم تلهثون وراء أوصاف أسطورية لنساء متخيلات وتتحدثون عن الزهد والترك. فكيف استقام لكم مثل هذا لا أعرف.
والله لا أملك إلا أن أقول في نفسي، حسبي ربي ونعم الوكيل على كل من استسهل حديثاً كهذا يلقي بالكلمات لا يوزنها ولا يحسب لها حساب ولا يقدرها حق قدرها، لا يسائل نفسه ولا يقوّمها، وفوق ذلك ينسب إلى الدين زوراً ما ليس فيه، ينفر من دين الله عباد الله، ويفتح أبواب التشويه والتشهير.
وأكاد أقسم أن مأساتنا ليست في قلة الشيوخ وطلبة العلم كما يدعون، لا بل مأساتنا في كثرة الفالصو، الشيوخ الفالصو، والدعاة الفالصو، من كل نوع وشكل وموديل، أولئك الذين يخرسون عن الحق إذا ما جاء يوم نصرته، ولكنهم لا يتحرجون في الحديث والخوض في أعراض الناس، ولا يترفعون عن أحاديث كهذه، تفسد نفوس الخلق وتخرب عقولهم. يقولون لي لحوم العلماء مسمومة، ويقول الدكتور سلمان العودة: "(لحوم العلماء مسمومة) تكررت وكأنها حديت يستدل به، وصارت تعني عدم النقد عند قوم وتسهيل الوقوع في أعراض غير الشرعيين". والحق أن السمّ ليس في لحومهم، ولكن منهم – وها أنا أعيد منهم حتى لا يقال عممت – من كانت كلماته مسمومة، وأفكاره مسمومة، وأفعاله مسمومة.
تم نشر هذه التدوينة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.