صراع العقل والشرع

يجب على أولي العلم والنهى أن يتكلموا، ولا يتركوا الساحة للناعقين الذين يصدِّرون فهومَهم السقيمة للناس، فيَضِلوا ويُضِلُّوا، وألا يتعاملوا بعنجهية مع المخالف، بل بنقاش وهدوء وبالعقل والمنطق.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/22 الساعة 05:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/22 الساعة 05:43 بتوقيت غرينتش

في ضوء ما يُطرح هذه الأيام حول المواريث، وما سبقها من كلام حول حجية أحاديث الآحاد، وما سيتبعها من كلام في الدين، وحول قضايا تتعلق بالعقل والشرع كانت هذه النقاط.

صراع العقل والشرع في العصر الحالي له علامات، فليس صراعاً حقيقياً بل هو إن شئت صراع هوائي، وأحياناً عصبي متشنج مملوء بغضب وحَنق صبياني على الدين، على العكس من نقاشات العصور السابقة، التي كانت عبارة عن مضامين أكثر منها شعارات، وحوارات أكثر منها احتجاجات.

يتميز عصرنا بسرعة الإيقاع، فالقضايا التي تُناقش ليست إلا قنابل تُفجر ويمضي صاحبها سريعاً دون الوقوف لبرهة للنقاش حول طرحه، وربما هذه سمة العصر الحديث، مما يصعِّب عملية النقاش أو الرد، ويجعل تتبع هذه الصراعات التي تُثار أشبه باصطياد العنقاء، وهذا سببه أيضاً عدم وجود إطار ناظم لكل هذه الانتقادات الموجهة لـ"الدين".

يتحدث البعض عن أن هذا إنما هو نقد لفكر واجتهاد علماء، لا لذات النص، دون أن يكلف نفسه بمجرد اكتساب الأدوات اللازمة لبدء نقاش علمي محترم، مع فهم هؤلاء العلماء، أو حتى للتعامل مع النص بشكل مستقل.

إن العقلية المأزومة نتيجة واقع مأزوم لن تنتج فكراً، ولن تناقش بعدالة، ولن تصل إلى الحقيقة الخالصة.

يتسم هذا الصراع بالجرأة في تناولاته، فكل شيء مباح، وكل شيء معرض للنقد، فلا حدود ولا قيود.

يتسم بالخواء عند أغلب الناقدين، فالمتناول لن تجد عنده محتوى أو معنى يناقش على أساسه، أو تأصيلاً علمياً قوياً ينطلق منه، كالمستشرقين مثلاً الذين خبروا تراثنا.

على أن هؤلاء الذين خبروا التراث وكان لهم من الدوافع الكثير للهجوم والطعن في الإسلام لم تصمد هجماتهم على الإسلام طويلاً، أمام الردود العلمية للعلماء.

جزء من الأزمة اعتقاد البعض بأن الحركات الإسلامية هي الإسلام، أو ادعاء بعض الإسلاميين تمثيلهم المطلق للدين، كل هذا أسهم في إذكاء نار الغيظ على الدين، الذي هو في جزء منه غيظ على الحركات الإسلامية.

جزء من الأزمة مواقعُ التواصل، التي جعلت كلَّ منمّق الحديث حلو اللسان شيخاً متبعاً، حتى إنه من السخرية أن أجد مسيحياً يُعلق على قضية زواج المسلمة من غير المسلم، ويصوِّب لنا فَهْم الأدلة، والأنكى أن تجد مسلماً يوافقه ببلاهة.

جزء من الأزمة خلو الساحة من العالِم والمفكر والكاتب النابه، الذي يستطيع الرد بقوة، وتوضيح الغامض، وإزالة الإشكال.

والمتتبع لحركة النقد العقلي لكل ما هو ديني في الأيام المعاصرة يجدها بدأت بتناول الفرعيات الفقهية، ثم تتجه شيئاً فشيئاً للسُّنة، وللضرب المباشر في حُجيَّتها، ثم لم نلبث إلا قليلاً حتى رأينا المُحكَم من آيات القرآن عُرضةً لا للتأويل وفقط؛ بل أيضاً للرفض والنبذ بحجة مخالفة العقل والهوى.

الإشكالية أننا لا ننطلق من الدين، بل الواقع أننا ننطلق من أدمغتنا وأهوائنا، ونجعل عقولنا المتفاوتة الناقصة، وربما أحياناً تجاربنا الشخصية حكماً على الدين، ولو أن المنطلق كان هو الدين لكان الأصل أن نقول: كيف بنا أن نصل إلى تطبيق أمر الله في ضوء الفَهْم العام لمقاصد التشريع، وأن الشرع كله وحدة واحدة مصدره واحد.

هذه الأزمات تُبرز غيابَ فَهْم الناس لفكرة الإله، ولمفهوم العبودية لله الرب الخالق جل وعلا، وغياب فهم أول وأبرز معاني الإسلام وهو الاستسلام، وأن معنى رضاك بالله ربا هو رضاك بكل ما شرعه.

والعجيب أن تجد من يزعم أنه بتأويله الباطل أو المحرَّف للنص المحكم الذي لا يقبل التأويل، أو برفضه لجملة السُّنة بدعوى عدم ثبوت الآحاد والاعتداد بها، أنه بهذا يقوم للدين بحقه، ويحكم كلام الله.

ولذا ينبغي علينا أن نعيد تأسيس معاني العقيدة الإسلامية في نفوسنا من جديد، ببعث جديد للدين الإسلامي في قلوب الناس وعقولهم.

القرآن ناقش القضايا العقلية بالبراهين والحُجج، وناقش العقل في أعتى صور الإنكار والكفر، ولم يعامله بالجبر والقهر، وأقام عليه الحجة مستنداً إلى قواعد التفكير المنطقي وأساليبه.

ولذا يجب على أولي العلم والنهى أن يتكلموا، ولا يتركوا الساحة للناعقين الذين يصدِّرون فهومَهم السقيمة للناس، فيَضِلوا ويُضِلُّوا، وألا يتعاملوا بعنجهية مع المخالف، بل بنقاش وهدوء وبالعقل والمنطق.

من أبرز جماليات الدين أنه الدين الذي يستطيع كل عقل سليم وفطرة صحيحه أن تتشرَّبه دون عناء، متى ما وُجِدت العقليةُ الناضجة صاحبة اللسان الفصيح لِتعرضَ الحجةَ الصحيحة القوية.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد