رحم الله الطيب صالح، لم يرِضه شرح اليازجي لقول أبي الطيب:
"لَقيتُ بِدَربِ القُلَّةِ الفَجرُ لَقيَةً شَفَت كَبَدي وَاللَيلُ فيهِ قَتيلُ".
وذهب اليازجي إلى أن: "درب القلة" موضع وراء الفرات، أي أنه بدا له الفجر عند هذا المكان فاشتفت كبده بانصرام الليل كما يشتفي العدو بنكبة عدوّه، وجعل الليل قتيلاً لظهور حُمرة الشفق عند انقضائه فشبهها بالدم.
هذا قول لا يرضي الطيب صالح فتراه يقول: "مَن أطال صحبة هذا الشاعر العبقري يدرك أن الأمر أجل من محض ليل ينحسر ونهار يطلع وضوء يفتك بالظلام.. إن القصيدة تتحدث عن صراع دموي بين قوى الخير والشر والحب والبغضاء.. هذا قتل عظيم. كل هذا رآه الشاعر قبل أن يحدث حين رأى الليل قتيلاً "بدرب القلة" أو بالأحرى رأى قتيلاً في الليل.. في تلك اللحظة كان الشاعر قاتلاً ومقتولاً.
لقد رأى أبو الطيب قتيلاً، هو هو نفسه، رآه بعين الشاعر منذ ذلك العهد قبل أن يلاقي (فاتك الأسدي) بدير العاقول هناك سيتخضب الأفق بدماء علوية جديدة ويتقاسم (الصعاليك) ثروة الشاعر الطموح بطرطور.
هذا تصور يريح الطيب صالح ويرضيه فيقول: "الفجر لم يشفِ كمدك كما زعمت بل زادك كمداً. سمعت أنين الجرحى ورأيت دماء القتلى. وإذ إنك مت قتيلاً بعد ذلك، فلعلك رأيت دمك ينتشر في الأفق ويتشكل على هيئة فجر يخرج من جوف الظلام.
مالك بن الريب -كذلك- رأى منيّته رأي العين بـ(مرو)، فرثى نفسه بقصيدة بديعة باكية وذكر بكاء أهله عليه ورمحه وسيفه وصوّر جواده -الأشقر- وهو يقاد لكي يباع، رأى كل ذلك قبل أن يحدث رآه بعين الشاعر على مذهب الطيب صالح.
وَلَمّا تَراءَت عِندَ مَروٍ منِيتي ** وَخَلَّ بِها جِسمي وَحانَت وَفاتِيا
أَقولُ لأَصحابي اِرفَعوني فَإِنَّهُ ** يَقَرُّ بِعَيني أَن سُهَيلٌ بَدا لِيا
فَيا صاحِبي رَحلي دَنا المَوتُ ** فَاِنزِلا بِرابِيَةٍ إِنّي مُقيمٌ لَيالِيا
وَخُطّا بِأَطرافِ الأَسِنَّةِ مَضجَعي ** وَرُدَّا عَلى عَينَيَّ فَضلَ ردائِيا
الشعراء يتشاركون التجارب الشعورية عبر التاريخ تغوص أحاسيسهم في الماضي، وتسبح في المستقبل. نظراتهم ثاقبة وبصائرهم حديد ترى ما لا يراه غيرهم.. هكذا كان صلاح أحمد إبراهيم يملك إحساساً متعاظماً بالموت والآخرة والأجل، لا لم يكن صلاحاً يحس المنية في كل أوقاته فحسب، كان يراها رأي العين، لا بل كان يدعوها ويهش لها على غير جزع مالك بن الريب. كان صلاح يرحب بالمنية ويفتح لها صدراً لا يهاب الموت، وكيف يهابه وهو الذي ألف الأحزان تأتيه صغاراً وكباراً، وهو الذي حدّق في الموتِ ملياً ومِراراً:
ورأى والدَه يخطرُ للموتِ ونعشاً يتوارى
كل يوم ولنا في البيت مأتم
وصغير ذُبحت ضحكتُه يومَ تيتم
كلما مَرتْ بِنا داهيةُ تسألُ عيناه عن الشرِ المُغير
ويرى من حولِه أمراً مريباً وغريباً ورهيباً فيثور
أمه في جَلَدٍ تدعوه أن يَسكَت لكنْ صوتُها فيه اضطراب واكتئاب..
هل كانت تلك الأم الصابرة هي (فاطنة) هل رآها هي أيضاً، في لندن، تخطر للموت ونعشاً يتوارى؟ منذ أن وارى (الشفيع) كان صلاح يستشعر قرباً وصلة بهذا الباطش الجبار الذي أعمل أسياخه الحمراء في الجميع أهله ورفاقه وأحبابه وأخدانه.
لم يكن شيء يثقل صلاحاً وفاطمة، من خلفه ومن أمامه، إلى الأرض ويشدهما إليها. لا شئ البتة وهما لا يملان الرحيل، ولا يلقيان عصا التسفار كل يوم خلف أفق يقذفهما منفى إلى منفى جديد ما لهذه الأم غير عصا وعليها جراب، لعلها كانت تدس فيه بعضاً من تراب أم درمان، قبضة أو هيناً من علايل أب روف أو العباسية.
مضى صلاح ومضت فاطمة مثل التماع الشهب في جوف الغياهب ضاحكين في حنكِ الموت على الموت عُتّواً واقتداراً ولم تجر (فاطنة) حافية في مصاب صلاح تهيل الرماد على رأسها، لكنها خرجت في يوم (الاثنين 17 مايو/أيار 1993) تصعق الناس بسؤال الفخر والاعتزاز كما صعدت نفسها الطاهرة بالأمس هاتفةً بذات السؤال:
خبّراني، لهفَ نفسي:
كيف يخشى الموتَ من خاشَنَهُ الموتُ صغيراً؟
التحياتُ الزكياتُ لها، نفسُ زكيّة..
رسمُها في القلبِ كالروضِ الوسيم..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.