محددات المنهج الحركي للقرآن الكريم: البيان والفهم والعمل

لتكن هذه الكلمات موجهة لمن لا يزالون يؤمنون بأحقية هذا الدين في الحياة والحركة ويؤمنون بمنهجه القرآني العظيم، فلا شك في أن الله -تعالى- أراد من عباده أن يفهموا ما أنزل عليهم من كتابه، ليعملوا بما فهموا، ولتستقيم حياتهم على شرعه وتعاليمه

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/20 الساعة 06:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/20 الساعة 06:23 بتوقيت غرينتش

قال الله تعالى متحدثاً عن المنهج الحركي في القرآن الكريم ومن يبحثون عن مناهج أخرى في الغرب والشرق بعيداً عن هذا المنهج المحدد لهذه الأمة: "يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً".

إن اللّه -سبحانه- يتلطف مع عباده فيبيّن لهم حكمة تشريعاته ويحدد لهم منهجهم القرآني الذي أعده لهم، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر. إنه يكرمهم -سبحانه- وهو يرفعهم إلى هذا الأفق. الأفق الذي يحدثهم فيه، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم وليقول لهم: إنه يريد أن يبين لهم.

"يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ".. يريد اللّه ليكشف لكم عن حكمته ويريد لكم أن تروا هذا المنهج، وأن تتدبروه، وأن تُقبلوا عليه مفتوحي الأعين والعقول والقلوب فهو ليس معميات ولا ألغازاً، وهو ليست تحكماً لا علة له ولا غاية، وأنتم أهل لإدراك حكمته وأهل لبيان هذه الحكمة لكم.. وهو تكريم للإنسان، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم.

"وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ".. فهذا المنهج هو منهج اللّه الذي سنَّه للمؤمنين جميعاً. وهو منهج ثابت في أصوله، موحد في مبادئه، مطرد في غاياته وأهدافه، وهو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد. ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون.

بذلك، يجمع القرآن بين المهتدين إلى اللّه في كل زمان ومكان ويكشف عن وحدة منهج اللّه في كل زمان ومكان ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول، في الطريق اللاحب الطويل. وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه، إنه من هذه الأمة المؤمنة باللّه، تجمعها آصرة المنهج الإلهي، على اختلاف الزمان والمكان، واختلاف الأوطان والألوان وتربطها سنّة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل، ومن كل قبيل.

غير أن كثيراً من المسلمين تَرَكُوا هذا المنهج الحركي للقرآن الكريم وذهبوا يبحثون عن مناهج أخرى في الغرب والشرق لعلهم يهتدون سبيلاً، إلا أنهم ظلوا يتخبطون في هذه المناهج الغربية والشرقية، فلم يستطيعوا تطبيقها؛ بل ظلوا أسرى لحكام طغاة؛ لأن هذه المناهج بالأساس وُضعت في الغرب أو الشرق من قبل مفكريهم لتناسب هذه البلاد وهؤلاء البشر، ولكنها لا تناسب المسلمين في جوانب كثيرة منها، وربما يأتي اليوم الذي يفيق فيه مفكرونا ممن اعتنقوا هذه المناهج وتركوا منهجهم الأصيل الذي حدده لهم الخالق العظيم وبيَّنه رسله؛ بل كان رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ممتزجاً بهذا المنهج القرآني لدرجة أنه كان قرآناً يمشي على الأرض.

ولكن، دعونا من هؤلاء الآن، ولتكن هذه الكلمات موجهة لمن لا يزالون يؤمنون بأحقية هذا الدين في الحياة والحركة ويؤمنون بمنهجه القرآني العظيم، فلا شك في أن الله -تعالى- أراد من عباده أن يفهموا ما أنزل عليهم من كتابه، ليعملوا بما فهموا، ولتستقيم حياتهم على شرعه وتعاليمه؛ ومن ثم تكلف رسوله -صلى الله عليه وسلم- مهمة البيان والتفسير كما قال عز وجل: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم ولعلهم يتفكرون"، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفسر هذا الكتاب المنزل إليه بأقواله وسلوكه وأعماله؛ وذلك ليتم البيان ولتتضح التعاليم، وليكون الناس على بصيرة بما نزل إليهم.

لقد صدقت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في وصفها خُلق النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن: فعن سعد بن هشام بن عامر قال: أتيت عائشة أم المؤمنين، فقلت لها: أخبريني بخُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: كان خُلُقه القرآن، أما تقرأ في القرآن قول الله تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ"، وهذا الخلق الذي كان الصورة العملية الكاملة للقرآن الكريم؛ بل كانت السنّة النبوية كلها تفسيراً وتطبيقاً لهذا الكتاب العظيم؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما بُعث ليحقق نموذجاً من السلوك الفردي ويرقى بالمجتمع والدولة ليكونا ترجمةً حيةً تتمثل فيها المبادئ التي قررها القرآن.

ومن هذا النبع العملي، استقى الصحابة رضوان الله عليهم، فكانت همتهم متوجهةً إلى العمل بما ينزَّل إليهم من القرآن والائتمار بأمره؛ لأنهم يدركون الغرض الأساس للقرآن الكريم؛ إذ هو غرض تربوي عملي جهادي، وليس غرضاً تثقيفياً نظرياً، وأوضح ما يميز الطابع العملي لهذه المرحلة من التفسير ما روي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات من القرآن لم نتعلم من العشر التي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيها، وقيل لشريك: من العمل؟ قال: نعم".

وقال أبو عبد الرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن؛ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل".

ويُرجع سيد قطب هذا الروح إلى نجاح الصحابة في الانتفاع العظيم بالقرآن، كذلك في تميزه عن الأجيال التي تليه، حيث يقول: "وقد نجح الصحابة في التعامل مع القرآن والتفاعل به؛ لأنهم كانوا لا يستقون إلا من القرآن وحده، وهو النبع الرباني الصافي الذي يتكيفون به، ولأن الرجل منهم كان يخلع على عتبة القرآن كل ماضيه، ويدخل عالم القرآن من دون مقررات مسبقة لتتم صياغته صياغة قرآنية، ولأنهم تلقوه للتنفيذ والعمل لا للثقافة والمتاع، أو التذوق والاطلاع".

ولعل هذا من جملة الأسباب التي دعت الصحابة وكثيراً من التابعين إلى عدم التوسع في التفسير النظري، وعدم الإكثار من البحث في موضوعات علوم القرآن والتفسير المختلفة، ومدلولات الآيات البعيدة؛ ومن ثم عدم الاعتناء بتدوين التفاسير المطولة للقرآن الكريم؛ لأنهم مشغولون بالعمل والتنفيذ عن البحث والتأويل، وهم عاشوه واقعاً وعملاً. ولهذا أيضاً، يلاحظ أن ما أُثر من تفسيرهم القرآن الكريم أنه نوع من التفسيرات اللغوية، أو شرح لبعض التركيب، أو بيان المناسبات أو بيان سبب النزول ونحوها ما يكفي لرفع قارئ القرآن إلى مستوى إدراكهم وتحسُّسهم للغرض الأساس العملي لكتاب الله الكريم.

وهذه مرحلة التفسير العملي، تمتد من العصر النبوي حتى عصر ابن جرير الطبري (ت: 310هـ). ثم مع تطور التفسير بعد عصر التدوين، انتقلت حركة التفسير إلى مرحلة التأويل النظري، وهي القرون الثلاثة التالية بعد الطبري، وتوسَّع المفسرون في بحث موضوعات علوم القرآن والتفسير، وصار هدفهم تثقيف المسلم بتقديم مختلف العلوم والمعارف اللغوية والتاريخية والفقهية ونحوها لقارئ التفسير.

وكذلك، نشأت مدارس في التفسير، وظهرت الفرق المختلفة بين المسلمين، فدخلت كل فرقة إلى النص القرآني بصورة عامة بمقرر فكري سابق، تدعم آراءها وتنتصر لأفكارها، وصارت التفاسير صورةً عكست نقاط الخلاف، فـ"مفاتيح الغيب" للرازي (ت: 606هـ) مثلاً يمثل موقف أهل السنة والجماعة، و"الكشاف" للزمخشري (ت: 538هـ) يمثل موقف المعتزلة، وتفسير ابن عربي (ت: 638هـ) الممثل للمتصوفة.

ومن ثم، تبتعد التفاسير تدريجياً عن الأغراض الأساسية للقرآن إلى التثقيف. ولعل السبب في غفلة المفسرين عن التفسير الحركي أو المنهج الحركي للقرآن الكريم يعود إلى البيئة التي كان يعيشون فيها، حيث كان الغرض متحققاً من حولهم في مجتمع إسلامي، وكانت الشخصية المسلمة موجودة، والمجتمع الإسلامي قائم، والشريعة حاكمة؛ بل كان التثقيف هو مقتضى العصر.

واستمرت حركة التفسير في سيرها حتى مرت بعصر الركود والتقليد الذي بدأ منذ القرن السادس الهجري، حيث واجهت الأمة الإسلامية محناً سياسية اجتماعية مختلفة انحدرت بنشاطها الفكري إلى مستوى الترديد والوقوف عند تكرار المنقول والاحتفاظ بالقديم.

فعاش التفسير هذه المرحلة فلم يقدم جديداً، فهو إما تلخيص لتفاسير سابقة، وإما شرح وإيضاح وحواشٍ وتعليقات عليها، فهو بعيد عن الصورة القرآنية الحركية الواقعية. وعلى سبيل المثال، اختصر البيضاوي (ت: 691هـ) من "الكشاف" وإن كان ترك ما به من الاعتزال، كما استمد من "مفاتيح الغيب" للرازي، ومن تفسير الراغب الأصفهاني.

وكذلك "لباب التأويل" للخازن (ت: 741هـ)، اختصر صاحبه من تفسير البغوي، كما ضم إليه ما نقله ولخصه من تفاسير مَن تقدَّمَ عليه، و"غرائب القرآن" للنيسابوري (ت: 701هـ) مختصراً من تفسير الرازي و"الكشاف". كما اختصر الثعالبي (ت: 876هـ) تفسيره "الجواهر الحسان في تفسير القرآن" من تفسير ابن عطية، ووقف السيوطي (ت: 911هـ) في "الدر المنثور في التفسير المأثور" عند الجمع عن السلف.

هكذا عكست التفاسير طبيعة الفكر والحياة بصفة عامة في تلك المرحلة، إلى أن طلع علينا العصر الحديث، حيث كان العالم الإسلامي في ركود تام بمختلف مجالات الحياة، وكانت أحوال المسلمين تسير نحو التدهور والانحطاط الفكري، بينما كان العالم الغربي المادي يعيش مرحلة انبعاث علمي ومادي، ويغزو العالم الإسلامي من كل جانب غزواً فكرياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وعلمياً.

أمام هذا الواقع المؤلم، قام المفكرون والمصلحون بمقاومة هذه المادية الجاهلية المستعمِرة، ومحاولة بعث الأمة الإسلامية من جديد، واتخذوا تفسير القرآن طريقاً في الإصلاح والتجديد الديني والاجتماعي. فاتجهت وجهة بعضهم إلى استنباط السنن الاجتماعية وأساليب الهداية النفسية وأسباب التطور التاريخي من آيات القرآن؛ ليكون ذلك حافزاً للمسلمين في استعادة مجدهم بالقرآن وربط حياتهم الاجتماعية بتعاليمه وشرائعه، كما اتجهت وجهة أخرى إلى مسايرة النهضة العلمية الحديثة وبيان ما تناوله القرآن من أصول العلوم الكونية ونواميسها ومظاهرها.

ومن ثم، ظهرت تفاسير مختلفة للقرآن، يلتزم صاحبها منهاجاً خاصاً وطريقة معينة بحسب المدرسة التي ينتمي إليها. ومن اتجاهات التفسير في العصر الحديث، الاتجاه العلمي، والاتجاه الاجتماعي، والاتجاه العقلي، والاتجاه الأدبي، والاتجاه الحركي.

فكان الشيخ محمد عبده (ت: 1905م) له فضل كبير في تأسيس المدرسة الحديثية في التفسير وظهور تلك الاتجاهات التفسيرية المتنوعة رغم ما لها من مسؤولية عما حدث من أخطاء وتقصيرات، وأخذت عليها ملاحظات وانتقادات منهجية، كما يلاحظ الخالدي أيضاً أن التفاسير المنسوبة إلى هذه المدرسة كلها لا تعدو أن تكون تفسيراً نظرياً للقرآن، يهدف أصحابها إلى تثقيف المسلم المعاصر وتزويده بزاد ثقافي نظري بأسلوب عصري.

فجاءت مدرسة التفسير الحركي لتستدرك ما قصر عنه المفسرون العصريون، وتقدم منهج العودة للقرآن الكريم كمنهج ونظام للحياة بعد أن كان الاتصال بالقرآن والسنّة مصادر للمعرفة والتشريع قد أُبعدت عن الحياة، وهي كذلك تهدف إلى تحقيق الغرض الأساس الذي نزل القرآن الكريم من أجله، وهو هداية الإنسان إلى خيري الدنيا والآخرة، وصياغة الشخصية المسلمة الحقيقية، وتكوين الأمة المسلمة، كما تبين مهمة القرآن الحركية العملية في قيادة الأمة الإسلامية، وتوضيح معالم طريقها بالحياة.

وباختصار، يمكن أن نعد أن هذه المدرسة الحركية في التفسير تهدف إلى تفهيم المسلمين القرآن الكريم كما فهمه السلف وخاصة الصحابة الكرام، والتعرض لمنهجهم في استقبالهم القرآن وتعاملهم معه، مع ملاحظة البُعد الواقعي للقرآن، وكذلك تهدف إلى توظيف هذا المنهج في إعادة ثقة المسلمين بالإسلام نظاماً شاملاً متكاملاً للحياة، وإصلاحهم وإرشادهم إلى قمة الحياة الكريمة التي أرادها الله تعالى للإنسان.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد