المسلم الحضاري: مشروع ابن حزم الأندلسي نموذجاً

شخصية عاشت منذ نحو عشرة قرونٍ، وغالبية المسلمين اليومَ يتمتعون بنظرة إيجابية لتاريخ أجدادنا في الحضارة والحُكْم والعلم والمعرفة، وإذا أردْنا أن نُغريَ عواطف أي واحدٍ منا فلنذكر أمامه كلمة "الأندلس" حتى تجِيشَ نفسُهُ بمشاعر قد لا يمكنه التعبيرُ عنها بصورة كاملة

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/18 الساعة 02:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/18 الساعة 02:01 بتوقيت غرينتش

الكلام الآن عن شخصية عاشت منذ نحو عشرة قرونٍ، وغالبية المسلمين اليومَ يتمتعون بنظرة إيجابية لتاريخ أجدادنا في الحضارة والحُكْم والعلم والمعرفة، وإذا أردْنا أن نُغريَ عواطف أي واحدٍ منا فلنذكر أمامه كلمة "الأندلس" حتى تجِيشَ نفسُهُ بمشاعر قد لا يمكنه التعبيرُ عنها بصورة كاملة لكنها تعمل في نفسه أثراً غريباً من دون شكٍّ، غير أنه يجب علينا أن نكون واقعيين في تفسير ما وصل إليه أجدادنا من مستويات راقية في المَعارف ومراتب الحضارة الإنسانية، فالأمر لم يأتِ بسهولة مطلقاً، كما أنه لم يحصُل دُفْعةً واحدةً من غير تدرُّج.. لا أبداً، كانت المسيرة الحضارية مسيرةَ مجتمعٍ بمختلِف طبقاته من القاعدة المكوَّنة من شرائح المجتمع البسيط وصولاً إلى قمَّة الهرَم التي يتربع عليها النخبة أو كما كانت توصف بـ"الخاصة" سواءٌ من أهل السياسة أو أهل العلم والأدب والفن وقادة الحرب وغيرهم، فالأمر يخصُّهم جميعاً وكان على أي مُواطنٍ حينها أن يرى في نفسه جزءاً ضرورياً من أجزاء الحركة المجتمعية الكبرى؛ لذا لا غرابة حين نقرأ في تراجم خاصة الناس وعامَّتهم أو شرفاء المجتمع وسُوقته ما يدعو للتأمُّل في نمط الحياة الذي كانوا يتَّخذونه ونوعية التعامل مع الذات أو مع الآخرين، كان المواطن "الإسلاميُّ" يحمل عبء الحضارة كما يحملها أكبر العلماء في الشريعة والطبِّ والجغرافيا والفلك والرياضيات وكما يحملها القائد العسكري الموكَلُ بحماية الأراضي الإسلامية تماماً، وهذا بالضبط ما نطلق عليه اليومَ "الشهود الحضاري" وبعبارة أخرى "أن يفهم الإنسان موقِعَه في الحياة"؛ لأن الفرد حين يفقد قيمته ويجهل أهمّيَّتَهُ لنفسه أو لمجتمعه فسيكون فرداً خاملاً، وستضيع طاقته هَباءً حتى تُستنزَف أيام عُمره في حركات روتينية تنحصر في إرادة البقاء فقط..

هكذا باختصار كان "العمل" هو جمرةَ الحضارةِ المشتعلةَ دوماً، والعمل هو المحطَّة الثالثة بعد محطَّتَي الفكرة والكلمة، هذا ما جعل الشريف الإدريسي يجوب البلدان على قدميه أو راكباً الخيلَ والسفن أحياناً؛ ليقدِّم لنا أهمَّ ورقةٍ جغرافية هي الأساس الحقيقي لخرائط اليومَ، رسم الإدريسي خريطة الكرة الأرضية بدقة مدهشة وكأنها محاكاةٌ لما تلتقطه الأقمار الصناعية اليومَ، ما الذي جعل رجلاً ينطلق من أقصى المغرب إلى سائر بقاع الدنيا حتى يرسمُ ورقة واحدة؟ إنها الفكرة ثم القرار ثم العمل، الفكرة التي تعني الوعيَ بالحق في المعرفة والوعيَ بالواجب المُلقَى على عاتق المسلم في أن يقدِّمَ خدمةً للبشرية، هذا الوعيُ هو الذي يخرج الإنسان من حياة الأنانية (الصورة النفسية للرأسمالية) إلى التفاعل الاجتماعي الإيجابي.

ومثالٌ آخر نجده عند أحد علماء الحديث في القرن الثالث الهجري وهو أبو حاتم الرازيُّ (195 هـ – 277 هـ) الذي قال عن نفسه: "لقد مشيتُ بقدميَّ هاتين ألف فرسخٍ لسماع الحديث النبوي"، والفرسخ بالتقريب يساوي 5 كيلومترات، فالرجل قطع 5000 (خمسة آلاف) كيلومتر مشياً على الأقدام من أجل كتابة الأحاديث النبوية سماعاً من شيوخ الرواية آنذاك، ولا أريد التوسُّع بسرد أمثلة أخرى لأن المقامَ لا يكفي لذلك، والمقصود هو أن رغد الحضارة لا يأتي إلا بصرف طاقة كبيرة لتحصيل المعرفة ثم تحويلها إلى إنجاز ميداني حسب تنوُّع مجالاتها، وهذا يعني استثمار الإنسان لإنسانيَّته المتمثلة في "القوة العقلية، والقوة الأخلاقية، والقوة الجسدية".

هنا أستحضر مقولة المفكر العبقري مالك بن نبي في كتابه العظيم "شروط النهضة": "إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجرداً"، فإذا كانت الفكرة هي خط البداية فإنها لن تؤتيَ أكلها وثمرتها إذا بقيتْ كذلك حتى تتجسَّد في العمل الذي هو الصورة المادِّيَّة لتلك الفكرة، وهذا ما سوف نلمسه إذا درسنا حياة أي شخصية إسلامية من خلال كُتُب التراجم المشرقية والمغربية والأندلسية على حدِّ السواء، أما كلامي فقد خصَّصتُهُ لإبراز كيف تحققت "شروط النهضة" لدى أحد كبار الأعلام في الجزيرة الإيبيرية ألا وهو ابن حزم الأندلسي، وإن كان قد تناوله كثيرٌ من الباحثين العرب والأوروبيين بالدراسة من عدة جوانبَ إلا أني قصدت إلى تسجيل العمل الحضاري أو الحركة -كما يسميها مالك بن نبي- التي طبَعت حياةَ ابن حزمٍ حتى يصل إلى ما وصل إليه من مجدٍ علميٍّ.

وقبل ذلك أبدأ بترجمة مقتضبة لهذه الشخصية الأندلسية من بعض المصادر التي ترجمت له مثل "جذوة المقتبس" لتلميذه الحُميدي، و"الصِّلة" لأبي القاسم ابن بشكوال و"سير أعلام النبلاء" للذهبي وغيرها.

توثيق تاريخ ومكان الميلاد
يقول المؤرخ صاعدٌ الأندلسي: "كتب إليَّ أبو محمدٍ بنُ حزم يقول بخطِّهِ: وُلدتُّ بقرطبة في الجانب الشرقيِّ في ربض منية المغيرة قبل طلوع الشمس وبعد سلام الإمام من صلاة الصبح آخر ليلة الأربعاء، آخر يومٍ من شهر رمضان المعظَّم وهو اليوم السابع من نوفمبر/تشرين الثاني، سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، بطالع العقرب" (الصِّلة، لابن بُشكوال، ص: 334).

فالذي يقرأ معلومات الولادة يُخيَّل إليه أنه يقرأ شهادة ميلاد استخرجها صاحبها من مكتب الحالة المدنية في مقرِّ البلدية من دون شكٍّ؛ لأنها تشمل كل تفاصيل الميلاد المكانية والزمانية، وقد شملت هذه الشهادة ما يلي:
• مكان الميلاد: مدينة قرطبة، المنطقة الشرقية، حي مُنْية المُغيرة.
• يوم الميلاد: 30 رمضان 384 هـ، الموافق لـ 07 نوفمبر/تشرين الثاني 994 م.
• ساعة الميلاد: بعد انتهاء صلاة الصبح، وإذا علمْنا أن الوقت كان في شهر نوفمبر فيمكن تخمين ساعة المولد بالتقريب نحو السادسة والنصف صباحاً.
• البرج: العقرب، وهو ما سمَّاه بـ"الطالع"، حيث يدل على عناية الأندلسيين بمعرفة الأبراج، وابن حزم نفسُه يربط بين دراسة النفسيَّات الإنسانية وبين الأبراج، وأيضاً بين جغرافية البلدان ومواقعها في الخريطة السماوية (نجد ذلك في رسالته "الباهرة" في فضل الأندلس، حين تكلم عن الموقع الجغرافي للأندلس معتمداً على الحسابات الفلكية).

ثم نسجل ما قاله الحافظ أبو عبد الله الحميدي نزيل بغداد في ترجمة شيخه ابن حزم؛ حيث قال: "علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب، أبو محمد أصله من الفُرس، وجدُّه الأقصى في الإسلام اسمه يزيدُ، مولى ليزيد بن أبي سفيان"، ويقول أيضاً: "كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة متفنِّناً في علوم جمة عاملاً بعلمه زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الممالك، متواضعاً ذا فضائل جمة وتواليف كثيرة في كل ما تحقق به من علوم، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمسندات شيئاً كثيراً وسمع سماعاً جماً، وأول سماعه من أبي عمر محمد بن الجسور قبل الأربعمائة "ا.هـ (جذوة المقتبس: 301- 302)

أتوقف هنا لتسجيل بعض النقاط:
• نشاط التحرُّكات الجماعية التي كانت معروفة في القرون الأولى من الحضارة الإسلامية، فأصول ابن حزم تعود إلى الفُرس، وأن أجداده سافروا من أقصى تلك البلاد المشرقية إلى أقصى المغرب الإسلامي في الأراضي الأوروبية، ودوافع هذه الهجرات تختلف بين الجهاد والتجارة واستيطان المدن بحثاً عن حياة أفضل، وأحياناً تكون بسبب الأزمات السياسية مثل رحلة عبد الرحمن الداخل من الشام إلى الأندلس.

• التبكير في تلقِّي المعرفة، فابن حزمٍ الذي وُلِد سنة 384 هـ قد بدأ طلب العلم قبل سنة الـ400 هـ، ومعنى ذلك أن عمره لم يتعدَّ الـ16 سنة، وليس المقصود هو تعلُّم القراءة والكتابة لأن هذين الأمرين قد تمَّ تحصيلهما منذ نعومة الأظافر، حين كان ابن حزمٍ طفلاً يجري بين أروقة القصر الوزاري ويلعب مع جواري القصر، وقد صرَّح هو بذلك حين تكلَّم عن خبرته بأمور النساء؛ فقال: ".. وهُنَّ علَّمْنني القرآن ورَوَّيْنني كثيراً من الأشعار، ودرَّبْنني في الخطِّ.." (طوق الحمامة، ص: 141)، فندرك بذلك أن ما وصفه الحُميدي ببداية سماع ابن حزمٍ على يد ابن الجسور إنما المراد منه هو دخوله في مرحلة تلقِّي العلوم وذلك بسماع الحديث والتفقُّه، وهذه المرحلة متقدِّمةٌ جداً بالنظر إلى السِّنِّ التي بدأ فيها وهي سنُّ السادسة عشرة من العمر، وهذا يكشِفُ الفارق الكبير بين الشخصية القديمة وبين الشخصية التي نجدها عند الشباب حالياً لأن توسيعَ المَدارك والتعمُّقَ في المعرفة قد لا يوصل إليه في عصرنا إلا بعد بلوغ مرحلة الدراسات العليا والتي تكون على الأقل مع سن الثانية والعشرين أو بعدها بكثير، هذا إذا أخذْنا فقط شريحة الطلاب المتفوِّقين والذين لا يتعرَّضون لعوائق بيروقراطية في الحصول على الشهادات والانتقال إلى مراحل الدراسات العليا وما بعدها.

• الموسوعية التي كانت تميز عموم أهل العلم قديماً، فعبارة الحميدي "كان متفنِّناً في علوم جمَّة" تعني شيئين: أن ابن حزمٍ تناول كثيراً من العلوم بالدراسة والتعلُّم، والأمر الثاني هو أن دراسته لها لم تكن مجرد ثقافة عابرة أو أخذ معلومات سطحية، بل كان "متفنِّناً" فيها، والتفنُّنُ هو الإتقان في أخذ الفنِّ والذي هو مصطلح آخرُ مطابقٌ للعلم بمفهومه الواسع (الدراسات الشرعية واللغوية والتاريخية والطب وغيرها)، وفعلاً سنجد ذلك واضحاً في ما خلَّفه ابنُ حزمٍ من كُتُب في عدة مجالات.

• في عبارة الحميدي "كان عاملاً بعلمه" يمكننا أن نفهم بالضبط ما كان يركِّز عليه المفكر مالك بن نبي في مسألة "منطق العمل" وأن هذا هو ما ينقص المسلمين اليوم وليس منطق الفكرة؛ لأن الفكرة هي حركة الذهن في النظريات وهي ممكنة لكل ذي عقل، وأما منطق العمل فهو القوة التي بها يتمُّ تحويل الفكر إلى مشروع ميداني يكون له تأثيره الحقيقيٌّ على صاحب المشروع والمجتمع المُحيط به، فابن حزم لم يكن مجرد حافظ للمسائل الفقهية وجامع للأحاديث والأخبار؛ بل كان عاملاً بما توصل إليه من علوم وما تحقق به من فنون، ويمكننا ملاحظة ذلك فيما اهتبل به الإمام ابن حزمٍ من توعية العامة بالخطر المُحْدق ببلاد الأندلس جراء حكم الطوائف وتحذيرهم من حُكَّام السوء الذين يبيعون ولاءاتهم للعدوِّ حفاظاً على مناصبهم وأملاكهم ومزاياهم، كما نلحظ منطق العمل عند ابن حزم في عقده للمناظرات المطولة مع كافة الفرق الإسلامية والملل الأخرى، فقد ناظرَ فقهاء المالكية وناظر أئمة الأشاعرة كما كانت له جولات في محاججة أهل الكتاب من المسيحيين واليهود، فمن ذلك مناظراته مع الفقيه أبي الوليد الباجي، وهو أحد أكبر علماء المذهب المالكي، كما أنه حامل لواء العقيدة الأشعرية، ثم مناظرات ابن حزم مع أحد علماء اليهود المسمى بابن النغريلة اليهودي، وهكذا لم يرتضِ ابنُ حزم أن ينطويَ على نفسه بل كان مؤثراً ومتأثراً بالمجتمع الذي يعيش فيه بكل تجاذباته ومستوياته المادية والثقافية والدينية، فالعلم الذي لا يُصدِّقه العمل هو بمثابة الجهل، وهو أيضاً كالمال الذي لا ينفقه صاحبه فيما ينفعه أو فيما ينفع به أهله وأولاده.

مشروع ابن حزم
نشأ ابن حزم في بيئة تتبنى المذهب المالكي بطريقة رسمية، فبعد دخول الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي القرشي (113 هـ / 172 هـ) الأندلس واعتلائه سُدَّة الحكم فيها -وعبد الرحمن هذا هو صقر قريش أحد نبلاء بني أمية وأحد أبرز الشخصيات القيادية في التاريخ الإسلامي- اعتمد الأمويون المذهب المالكي لكون إمامه مالك بن أنس كان يؤيد حُكْمَهم في المشرق ويُحسن ذِكرهم، وأما قبل عصر عبد الرحمن الداخل فلم يكن هناك مذهبٌ رسميٌّ للأندلسيين، إلا أن كثيراً منهم كانوا يتبنَّون طريقة الأوزاعي في التفقُّه، وعلى أي حال فلا شكَّ أن ابن حزم -مثله مثل غيره من الطلبة- قد تلقى كثيراً من الفنون على ما يريده فقهاء المالكية من مناهج وما يقترحونه من كُتُب دراسية وآراء عقدية وفقهية، ولكن هناك عواملُ كثيرةٌ جعلته يتخلى عن المذهب المالكي إلى غيره، من بينها شخصيته حيث كان شغوفاً بالبحث، حاملاً راية النقد التي يرى فيها الملاذَ الوحيد من التناقضات التي وجدها في المذاهب التقليدية الأخرى، فالنقد والبحث هما أساس شخصية ابن حزم التي جعلته يرفض الالتزام بمذهبٍ معيَّنٍ، ثم أمرٌ آخر وهو دراسته للمنطق وتبنِّيهِ فيما بعد لما أضحى يُسمَّى "نظرية المعرفة" التي جعلتْه يقدِّس البحث عن الحق بدليله ويمتنع عن القبول بأي معلومة إلا حين تستند إلى "برهان" يُثبتها وإلا فهي لاغية مطروحة مهما كان قائلها.

ومع توسُّع قدراته العقلية ومَداركه وتعمُّقِهِ في دراسة أصول المذاهب والطوائف الإسلامية باتت لدى ابن حزم قناعةٌ أن "الحقَّ" ليس مرتبطاً باسم شيخ أو مذهب أو طائفة، بل الحقُّ مرتبط بالدليل وجوداً وعَدَماً، وبذلك تخلَّى تماماً عن فكرة الانتماء المذهبي، وانتقل إلى المدرسة التي يرى أن أصولها وقواعدها هي طلب الدليل اليقيني دون البحث عن قائله أو ناقله، وهذه المدرسة هي ما يسمَّى في الأدبيات الفقهية بـ"المذهب الظاهري"، وهو ما أثار عليه موجة انتقاد كبيرة لا تزال آثارها حتى الآن من طرف من يخالفون ابنَ حزمٍ، وعلى رأسهم شيخُ مالكية الأندلس في زمانه الحافظ الفقيه أبو بكر ابن العربي الإشبيلي (468 هـ / 543 هـ)، والإشكالية التي يرون أنه وقع فيها هي انتقاله من تقليد مذهب إلى تقليد مذهب آخر مع أنه يدَّعي أنه يرفض فكرة التقليد من أساسها، وهذا التساؤل مقبولٌ مبدئياً، لكنه لا يصمُد مع التحقيق؛ لأن جوهر المذهب الظاهري وجوهر المذاهب الأخرى مختلفان تماما، فمعادلة المذاهب التقليدية كالتالي: (شيخ + أصول وقواعد يقينية وظنِّية + أتباع)، وهذه المعادلة مرفوضة بالكُلِّيَّة لدى أصحاب المدرسة الظاهرية؛ لأنهم لا يعترفون بشيخٍ مؤسِّسٍ ولا بإمام المذهب، كما يرفضون المنهج الظني في الاستدلال، وكذلك يرفضون فكرة التقليد التي تعني وجود أتباع وجمهور مقلِّدٍ لإمام المذهب أو شيخ الطائفة، فهذه الأركان الثلاثة للمذاهب الأخرى لا مكان لها في مدرسة أهل الظاهر مطلقاً، وحين ندرك جوهر الفرق بين الطريقتين نعلم أن من وصف ابن حزمٍ بالتناقض لم يدرك هذا الفرق الكبير بين مدرسة أهل الظاهر ومدرسة "الجمهور"، وعلى تلك الأُسُس بنى ابن حزمٍ فكرَه وسخَّر حياته لنشر هذه المبادئ التي رآها تحريراً للمسلم من سلطة المذاهب والشيوخ إلى رحابة الإسلام بشموليته وسَعته، وهذا هو ما أسمِّيه "مشروع ابن حزم" الذي لم يقتصرْ على جدلٍ فقهيٍّ أو اختلاف في تصحيح حديث وتضعيفه، بل كان الهدف هو بناء قواعد متينة للتفكير الإسلامي الصحيح استناداً إلى ما يلي:

• تحكيم العقل الذي هو "آلة التمييز" فقط، إذ لم ينخرط ابن حزم في مَتاهة الجدل التاريخي بين المعتزلة والأشاعرة في "هل العقل حاكم أم لا؟" -وإن كان قد ناقشها فعلاً وحرَّرها-؛ فالعقل عند ابن حزمٍ هو الآلة التي وضعها الله في الإنسان للتمييز والإدراك -وسأنقل كلامه فيما بعدُ-، وركَّز على هذا الأمر لأن نظرية التقليد واتباع الشيوخ مناقضة لاعتماد العقل أساساً للتفكير والبحث والحكم، والمراقب لأثر نظرية التقليد يعلم مدى الجمود الذي أصاب الأمة الإسلامية في كل النواحي الدينية والاجتماعية والثقافية، حتى أضحى الفقهاء يُحرِّمون صلاة الشافعي خلف إمامٍ مالكي، أو يحرمون التزاوج بين أتباع المذاهب المختلفة ويحرمون دراسة المنطق والفلسفة، وربما وصل التعصُّب المذهبي درجة الاقتتال في بعض المراحل، ولا ننسى هنا حصار متعصبي الحنابلة للإمام ابن جرير الطبري في منزله حتى الموت، ولا ننسى حرق متعصبي المالكية كُتُب الفيلسوف ابن رشد الحفيد.

• العناية بدراسة اللغة؛ لأنها وسيلة البيان والتخاطب الأولى، فمن أهمل تعلُّم اللغة لا شك أنه سيجد مشكلة في البيان والتخاطب، وابنُ حزمٍ يُولِي أهمية كبرى لتعلم اللغة العربية؛ لأنها هي المادة التي يستطيع العقل من خلالها التمييز بين الأشياء الخارجية، وهذا ما نجده جلياً في بداية كتابه "الإحكام" في الأصول.

• الاقتصار على المسلك اليقيني في التلقي والفهم، وهذا مبحث طويل جداً يتجاذبه علماء أصول الفقه في مقدمات كُتُبهم، فالمدرسة الظاهرية تجعل "اليقين" شرطاً وحيداً لتلقي الأخبار واستخراج الأحكام منها، فكلُّ حديث لم يثبت بطريق اليقين فهو ضعيفٌ غير مقبول، وكلُّ حكمٍ لم يُستخرَج بآليات اليقين فهو باطلٌ لا يجب الأخذ به، وهنا يبرُزُ الخلاف الكبير بين الظاهرية والمذاهب الأخرى، ويبدو الأمر ذا حساسية كبيرة جداً؛ لأنه يشكِّكُ في مبادئهم التقليدية التي درجوا على استعمالها في التعامل مع النصوص الشرعية، فمن بينها: تصحيح الحديث بمجموع الطرق الضعيفة، حجية قول الصحابي، القياس، مفهوم الموافقة، عمل أهل المدينة.. فهذه الأصول وغيرها تعتبر لاغيةً عند ابن حزم وكل أهل الظاهر، وبها احتدم النقاشُ وبدأت المعارك الفقهية تلقي بظلالها على غالب الكتب الأصولية والفقهية، حتى لخص ذلك الإمام ابن القيم الحنبلي في كتابه "أعلام الموقِّعين عن ربِّ العالمين"، في مناظرة تاريخية كبرى لم تنتهِ حتى يومنا هذا.

هذه هي ملامح مشروع ابن حزم التي لم تكن مجرد أفكار تراوده، بل أضحت عملاً كرَّس لأجلها طاقاته كلَّها حتى ترك لنا بناء مُحْكَماً على أسس متينة، لدرجة أن الاعتماد في تأصيل المذهب الظاهري ونقل الخلاف الواقع بين شيوخ الظاهرية وبين غيرهم من المذاهب الأخرى؛ كله تقريباً يقع على عاتق مؤلفات ابن حزم التي تنوَّعت في كل علوم الشريعة أصولاً وفروعاً؛ لذا سأضع بطاقات تعريفية لأهم مؤلفات ابن حزم التي لا غنى عنها لطلاب العلم خاصة الباحثين في "الخلاف العالي" والمتخصصين في الفقه المقارن وأصول الفقه المقارن وأصول الدين بشِقَّيْه المتمثِّلين في الخلاف الإسلامي بين الطوائف الإسلامية، وكذلك حوار الأديان.

1- كتاب "الإحكام في أصول الأحكام"
هذا الكتاب يعد جوهرة المذهب الظاهري وأيقونة علم أصول الفقه، فقد جعله ابن حزم مدخلاً ومآلاً لمعرفة "التميُّز" الذي يفصل بين مدرسته وسائر المدارس الأصولية، ومن خلاله نقَلَ مستوى الخلاف من مجرد التنازع في بعض القواعد الأصولية إلى بيان المشكلة الحقيقية التي تفرِّق بين المدرستين والتوجُّهين، فابن حزم بعد سرده للغرض من الكتاب وعَرْضه للفهرس الإجمالي؛ بدأ بباب أسماه "إثبات حجج العقول" بيَّن فيه أن أساس كل حكم ومَرجع كل نزاع بين أي طرفين يجب أن يكون هو العقل لأن حقيقة العقل كما يقول ابن حزم: "هي تمييز الأشياء المدرَكة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط" (الإحكام: 1/ 28)، وفي هذا الباب يناقش كثيراً من المذاهب التي تجعل مرجعيتها التشريعية إما الأئمة والشيوخ أو الإلهام أو الخبر أو التقليد، وفصَّل الردَّ عليهم تفصيلا مطوَّلاً بل بدأ كلامه في مناقشتهم ثم عرَّج على تقرير مذهبه في المسألة، وغالباً هذه هي طريقة ابن حزم في معالجة المسائل وذلك أن يبدأ في ذكر أقوال المخالفين فيسرُدَ كلامهم بالنقل من كتبهم أو بالرواية الإسنادية ثم يَشرَع في تفنيدها بالتفصيل، ثم بعد ذلك يقرر رأيه وهذا المنهج يسمى في علم الجدل بالسبر والتقسيم، أي: عرض كل الاحتمالات الواردة ثم إبطال ما هو باطلٌ منها وتصحيح المتبقِّي بالدليل الذي يراه المُناظِر.

بعد تقرير حجج العقول ينتقل الإمام ابن حزم إلى المسألة الثانية المهمة عند أهل الظاهر من المسائل التي ذكرتُها آنفاً وهي اللغة، فيناقش مسألة ظهور اللغات وهنا يستعمل الطريقة العقلية التي قرَّرها في الباب السابق لعرض رأيه ودعمه في مقابل المذاهب الأخرى، فهو يرى أن اللغات توقيفية، أي راجعة إلى الوضع الإلهي، يقول ابن حزم في معرض مناقشته:
".. لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام والكلام حروف مؤلَّفة، والتأليف فِعْلُ فاعلٍ ضرورةً لا بد له من ذلك، وكل فعل فَعَلَهُ فلهُ زمانٌ ابتُدِئَ فيه لأن الفعل حركة تَعُدُّها المُدَدُ [أي: حركة محسوبة بمُدَّة معينة] فصحَّ أن لهذا التأليف أوَّلاً والإنسان لا يوجد دونه، وما لم يوجد قَبْلَ ما له أوَّلٌ فله أولٌّ ضرورةً، فصحَّ أن للمُحْدَثِ مُحْدِثاً بخلافه، وصحَّ أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة مَعْرِفته إلا بمعلِّم علَّمه الباري إياه، ثم علَّم هو أهلَ نوعِهِ ما علمه ربُّه تعالى" (الإحكام: 1/ 30).

وهذا الباب يحوي مادَّة دسمة لما يسمى الآن بـ"فقه اللغة" و"اللسانيات" وكثير من فروعهما، فقد ضمَّنه ابن حزم أصول المسائل التي يجب على المتخصصين في هذه الفنون دراستها والتمكُّن منها.

ثم زاد ابن حزم توسُّعاً في قضيتي "العقل واللغة" ليخصص الباب الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع كلها لتثبيت الأساس الفكري لمدرسة أهل الظاهر، ومن خلال عناوين هذه الأبواب الخمسة ندرك قداسة ثنائية "العقل – اللغة" عند ابن حزم خصوصاً وأهل الظاهر عموماً، فقد جاءت تلك الأبواب كالتالي:
– الباب الخامس: في الألفاظ الاصطلاحية الدائرة بين أهل النظر.
– الباب السادس: هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرح على الحظر أم على الإباحة؟
– الباب السابع: في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف، وهذا الباب يفتتحه ابن حزم بقوله: "قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا أنه لا طريق إلى العلم أصلاً إلا من وجهين أحدهما ما أوجبته بديهة العقل وأوائل الحس والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس" (1/ 65).
– الباب الثامن: في البيان ومعناه.
– الباب التاسع: في تأخير البيان.

وباختصار؛ يمكن القول إن كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" يعد بمثابة الدستور الأعلى للمدرسة الظاهرية -ومع ذلك سأبين لاحقاً أنه ليس إلا تطبيقاً أصولياً (نسبةً لأصول الفقه) للكتاب الذي يُعدُّ أساس نظرية المعرفة وهو "التقريب لحد المنطق-، ودراسته ليست بالأمر السهل في الواقع؛ لأنها تتطلب من الباحث أن يكون قد قطع شوطاً لا بأس به في أبجديات أصول الفقه بالإضافة إلى تمكُّنه من اللغة العربية التي تبدو بمستوى عالٍ جداً في كتابات ابن حزم وغيره من الأندلسيين الذين كان اعتناؤهم باللغة حاصلاً مع بدايات طلبهم للعلوم، يقول المؤرخ صاعد الأندلسي عن صاحبنا: "كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسُّعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر" (سير أعلام النبلاء: 18/ 187)

2- كتاب "المُحَلَّى بالآثار شرحُ المُجَلَّى بالاختصار"
قال الإمام عز الدين ابن عبد السلام: "ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل (المحلى) لابن حزم، وكتاب (المغني) للشيخ موفق الدين" (السير: 18/ 194)، وكعادة الفقهاء وضع ابن حزم متناً فقهياً ليسهل على الطلبة حفظُهُ؛ حيث سرد فيه كافة أبواب الفقه مع ذكر آرائه واختياراته باختصار وسمَّى هذا المتن "المجلَّى" بالجيم، ولم يشرحْهُ شرحاً مباشراً بل بدأ بتأليف كتاب ضخم جداً يعدُّ أكبر موسوعة علمية في الفقه المقارن والخلاف العالي المدعوم بالحجج والأدلة، هذا الكتاب هو "كتاب الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة نِحَل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع"، وهو شرحٌ موسع جداً لكتاب مختصر آخر هو "الخصال"، ولكن مع الأسف كلٌّ من الأصل والشرح مفقودان لحد الآن، غير أن كتاب "الإيصال" الكبير الذي وصفه المؤرخ الذهبي بأنه "خمسة عشر ألف ورقة"! قد حُفِظ لنا بصورته المختصرة التي قد تكون قريبة لحد ما إلى النسخة الأصلية، وذلك في الكتاب الذي أتحدث عنه وهو "المحلى"، فابن حزم الذي كأنه استشعر خطورة الهجمة التي تعرض لها من قِبَل متعصبي المالكية حتى قال في ذلك شعراً يخلِّد فيه "محرقة" كُتُبه:
فَإِنْ تَحْرِقُوا القِرْطَاسَ لاَ تَحْرِقُوا الَّذِي ** تَضَمَّنَهُ القِرْطَاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيْرُ مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي ** وَيَنْزِلُ إِنْ أَنْزِلْ وَيُدْفَنُ فِي قَبْرِي

أقول: يبدو أن تلك الحملة التي طالت كثيراً من كُتُبه جعلته يفكر في حلول بديلة لحفظ علومه بعد نفيه من حاضرة قرطبة إلى قرية "لبلة منت لشيم" المعروفة بـ"مونديخار – Mondéjar " حالياً، فوضع لنا النسخة المصغرة لكتاب "الإيصال" وكُتب لتلك النسخة البقاء حتى شهِد العلماء لابن حزم بفضلها أنه كان أحد العباقرة وأن كتابه ذلك هو في صدارة الموسوعات الفقهية كما رأينا ذلك في كلام العز ابن عبد السلام وتعقيب الذهبي عليه في الموضع نفسه من السِّيَّر، وكتاب "المحلَّى" لا يمكن اختصاره في بعض الكلمات لتوصيفه وشرح منهجيته، بل ذلك يستدعي بحثاً مستقلاً على حِدَة، ويكفي أن أشير إلى أن ابن حزم قسَّمه إلى الكتب المعتادة عند الفقهاء ككتاب الصلاة والطهارة والنكاح وغيرها، ثم يبدأ بسرد المسائل بطريقة مختصرة ولا شك أن تلك المسائل تمثل متن "المجلَّى" الآنف الذِّكر، ثم ينطلق في عرض كلام الفقهاء المخالفين وسرد حججهم العقلية والنقلية ثم تفنيدها؛ لينتقل بعد ذلك إلى تقديم رأيه في المسألة محلَّ البحث فيذكُر رأيه ويسرد أدلته التي غالباً ما تكون خاصةً به وذلك ما جعل "المحلى" ابتكاراً جديداً في طرق الاستدلال إلى حد جعل كثيراً من العلماء يتعجَّبون من عبقريته وأحيانا من غرابة حججه، ورغم ما اشتمل عليه هذا الكتاب العظيم من مُشادَّة كلامية قاسية نوعاً ما إلا أنه مصدر أساسي لطلاب الفقه والفقهاء من سائر المذاهب، وفي بعض الأحيان يكون المصدر الوحيد لنقل آراء العلماء الذين اندثرت كُتُبهم ولم يُعْتَنَ بنقل أقوالهم خاصة من فقهاء المدرسة الظاهرية كالإمام داود بن علي الأصفهاني وابنه الإمام أبي بكر ابن داود وأبي بكر ابن المغلِّس والقاضي منذر بن سعيد البلُّوطي القرطبي وغيرهم.

3- كتاب "الفصل في المِلَل والأهواء والنِّحَل"
هذا الكتاب هو بحقٍّ موسوعة كبرى في علم أصول الدِّين بما يحتويه من فروع أساسية كعلم العقائد ومقارنة الأديان ومناقشة الطوائف الإسلامية، وقد جعله ابنُ حزم في خمسة أجزاء وبسط الكلام في كل جزءٍ حسب الترتيب الذي سأذكره فيما بعدُ، واعتمد في تقرير العقيدة الإسلامية والردِّ على أصحاب الديانات الأخرى والطوائف المخالِفة؛ منهجه المبنيَّ على "نظرية المعرفة"، وقد بيَّنتُ سابقاً أسس هذه النظرية التي تجعل العقل آلةْ مميزة للأشياء وتستخدم اللغة للبيان استخداماً صارماً للألفاظ والتراكيب؛ لأن الحقائق والكُلِّيَّات الأساسية لا تستقرُّ إلا إذا كان العقل هو المرجعية الأولى في التفكير، وهذه البديهية هي أول قاعدة تتعرض للنقض أثناءَ الجدل بسبب ما يعترض العقولَ من أهواء وانتماءات تتحكم في أصحابها، وإلا فلو سقطت تلك العوارض ورُفِعت تلك العوائق عن عملية التفكير لاتفق النُّظَّارُ والمُناظِرون على كل شيء، وأما الشِّقُّ الثاني من نظرية المعرفة فهو يتمثل في قداسة اللغة لكونها وسيلة التخاطب أو الصور المادِّيَّة لنقل الأفكار بين العقول، ولا تؤدي وظيفتها هذه إلا إذا كانت مفرداتها مضبوطةً بحدود صارمة، ولهذا نجد ابن حزمٍ في كل مُباحثاته مع من يخالفه يركز على دلالة الألفاظ ولا ينتقل إلى المراحل التالية من الحوار حتى يُثبِّتَ حدود الكلمات؛ لأن الكلام هو مادة النقاش بين المتناظِرين، وانضباطه يعني انضباط النقاش وتميُّعُه يعني أن طرفي الحوار سيصلان إلى طريق مسدود، وهذا منهجٌ كُلّيٌّ شموليٌّ يستعمله الإمام أبو محمد في كل معاركه العلمية سواء في الأصول أو الفروع.

وأما كيف بدأ ابن حزم كتابه "الفصل" هذا؟ فبعد إيراده للمقدِّمة المعتادة ذكر أصول أقوال المتنازِعين في العقائد سواءٌ كانوا من أهل الإسلام أو غيره، فسرد أقوالهم باقتضاب ثم انتقل إلى أهم قضية سيرتكز عليها في سائر أقسام الكتاب، وذلك أنه عقد باباً مختصراً في طرق الاستدلال التي يجب على كل المتنازِعين الرجوع إليها خلال المناظرات، وسأنقل طَرَفاً من كلامه في هذا الباب حتى تتبين طريقته التي التزمها في مناقشة كل من يخالفهم سواءٌ الإسلاميون أو غيرهم، يقول أبو محمد ابنُ حزم:
"بَاب مُخْتَصر جَامع فِي مَاهِيَّة الْبَرَاهِين الجامعة الموصلة إِلَى معرفَة الْحق فِي كل مَا اخْتلف فِيهِ النَّاس وَكَيْفِيَّة إِقَامَتهَا.

هَذَا بَاب قد أحكمناه فِي كتَابنَا الموسوم بالتقريب فِي حُدُود الْكَلَام وتقصيناه هُنَالك غَايَة التَّقَصِّي وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، إِلَّا أننا نذْكر هَهُنَا جملَة كَافِيَة فِيهِ لتَكون مُقَدّمَة لما يَأْتِي بعده مِمَّا اخْتلف النَّاس فِيهِ يرجع إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: إن الْإِنْسَان يخرج إِلَى هَذَا الْعَالم وَنَفسه قد ذهب ذكرهَا جملَة فِي قَول من يَقُول إنَّهَا كَانَت قبل ذَلِك ذاكرة أَولا ذكر لَهَا الْبَتَّةَ فِي قَول من يَقُول أَنَّهَا حدثت حِينَئِذٍ أَو أَنَّهَا مزاج عرض؛ إِلَّا أَنه قد حصل أَنه لَا ذكر للطفل حِين وِلَادَته وَلَا تَمْيِيز إِلَّا مَا لسَائِر الْحَيَوَان من الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية فَقَط فتراه يقبض رجلَيْهِ ويمدها ويغلب أعضاءه حسب طاقته، ويألم إِذا أحس الْبرد أَو الْحر أَو الْجُوع وَإِذا ضرب أَو قرص وَله سوى ذَلِك مِمَّا يُشَارِكهُ فِيهِ الْحَيَوَان والنوامي مِمَّا لَيْسَ حَيَوَانا من طلب الْغذَاء لبَقَاء جِسْمه على مَا هُوَ عَلَيْهِ، ولنمائه فَيَأْخُذ الثدي ويميزه بطبعه من سَائِر الْأَعْضَاء بفمه دون سَائِر أَعْضَائِهِ كَمَا تَأْخُذ عروق الشّجر والنبات رطوبات الأَرْض وَالْمَاء لبَقَاء أجسامها على مَا هِيَ عَلَيْهِ ولنمائها، فَإِذا قويت النَّفس على قَول من يَقُول إنَّهَا مزاج أَو إنَّهَا حدثت حِينَئِذٍ أَو أخذت يعاودها ذكرهَا وتمييزها فِي قَول من يَقُول إَنَّهَا كَانَت ذاكرة قبل ذَلِك وَإنَّهَا كالمُفيق من مرض؛ فَأول مَا يحدث لَهَا من التَّمْيِيز الَّذِي ينْفَرد بِهِ النَّاطِق من الْحَيَوَان فهم مَا أدْركْت بحواسها الْخمس كعلمها أَن الرَّائِحَة الطّيبَة مَقْبُولَة من طبعها والرائحة الرَّديئَة منافرة لطبعها، وكعلمها أَن الْأَحْمَر مُخَالف للأخضر والأصفر والأبيض وَالْأسود وكالفرق بَين الخشن والأملس والمكتنز والمتهيل واللزج والحار والبارد والدفيء، وكالفرق بَين الحلو والحامض والمر والمالح والعفص والزاعق والتفه والعذب والحريف وكالفرق بَين الصَّوْت الحاد والغليظ وَالرَّقِيق والمطرب والمفزع.

قَالَ أَبُو مُحَمَّد: فَهَذِهِ إدراكات الْحَواس لمحسوساتها والإدراك السَّادِس علمهَا بالبديهيات فَمن ذَلِك علمهَا بِأَن الْجُزْء أقل من الْكل فَإِن الصَّبِي الصَّغِير فِي أول تَمْيِيزه إِذا أَعْطيته تمرتين بَكَى وَإِذا زِدْته ثَالِثَة سُرَّ وَهَذَا علم مِنْهُ بِأَن الْكل أَكثر من الْجُزْء وَإِن كَانَ لَا يتَنَبَّه لتحديد مَا يعرف من ذَلِك، وَمن ذَلِك علمه بِأَن لَا يجْتَمع المتضادان، فَإنَّك إِذا وقفته قسراً بَكَى وَنزع إِلَى الْقعُود علما مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يكون قَائِما قَاعِدا مَعاً، وَمن ذَلِك علمه بِأَن لَا يكون جسم وَاحِد فِي مكانين، فَإِنَّهُ إِذا أَرَادَ الذّهاب إِلَى مَكَان مَا فأمسكته قسراً بَكَى وَقَالَ كلَاما مَعْنَاهُ دَعْنِي أذهب علماً مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يكون فِي الْمَكَان الَّذِي يُرِيد أَن يذهب إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَكَان وَاحِد، وَمن ذَلِك علمه بِأَنَّهُ لَا يكون الجسمان فِي مَكَان وَاحِد فَإنَّك ترَاهُ يُنَازع على الْمَكَان الَّذِي يُرِيد أَن يقْعد فِيهِ علما مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسعهُ ذَلِك الْمَكَان مَعَ مَا فِيهِ فَيدْفَع من فِي ذَلِك الْمَكَان الَّذِي يُرِيد أَن يقْعد فِيهِ إِذا يعلم أَنه مَا دَامَ فِي الْمَكَان مَا يشْغلهُ فَإِنَّهُ لَا يَسعهُ وَهُوَ فِيهِ.." (الفصل: 1/ 10- 11، طبعة قديمة نشرها محمد علي صبيح وأولاده وبهامشها "الملل والنحل" للشهرستاني، تاريخ الطبعة 1347 هـ – 1923 م، القاهرة)

كلام ابن حزم هنا يبدو غريباً جداً أو بعيداً عن موضوع الكتاب الذي وضعه للكلام عن العقائد والفرق الإسلامية وجدال أصحاب الديانات الأخرى، ففي مقدمة هذا الباب يتحدث عن الطفل الصغير وكيف ينمو لديه الإحساس والتمييز وأنه في بداية خروجه للحياة يكون في مستوى سائر الحيوانات والنوامي (النبات) في تطلُّب الغذاء والماء فقط، ثم يبدأ في إدراك جملة من الحقائق التي تمثل بديهيات الحس كعدم القدرة على وجود جسمين في مكان واحد، وكعلمه بأن الثلاثة أكبر من الاثنين وهكذا، وإنما انطلق ابن حزم من هذه البديهيات حتى يؤسس مرجعا للبرهنة المُلْزِمة للطرف الآخر في المناظرة؛ لأن استحضار بديهيات العقل والحسِّ هو فقط ما يمكن به فصل النزاع؛ لأن تحليل الآراء والمَذاهب إلى جزئياتها يُفضي بإعطاء صورة أكثر بساطة لها وبذلك يمكن مناقشتها ويمكن للطرف الآخر العثور على موضع الخطأ في مذهبه الذي يتمسَّكُ به، والقدرة على تحليل الآراء تتوفر للمتمكِّن من مبادئ نظرية المعرفة التي لا يبرح ابن حزم في شرحها وتكرارها في كل مؤلفاته وأعماله تقريباً، ويجب أن نعلم أن الكتاب الأساسي في هذه النظرية هو كتابه "التقريب لحد المنطق بالأمثلة الشرعية والألفاظ العامية" وهو الكتاب الذي لم أضع له بطاقة تعريفية هنا؛ لأنه يحتاج دراسة مستقلة وقد أشار ابن حزم في هذا الباب من كتاب "الفصل" إلى أنه شرح طرق البرهان واوجه الاستدلال في كتابه "التقريب" هذا، فهو المرجع الأساسي لمشروع ابن حزمٍ في كافة الميادين العلمية فحتى كتاب "الإحكام" إنما هو تطبيقٌ لكتاب "التقريب" في ميدان واحد من ميادين العلوم ألا وهو "أصول الفقه"، وكذلك "الفصل" هو تطبيق آخر للتقريب في ميدان آخر هو ميدان العقائد وأصول الدين؛ لذا يحاول ابن حزم استحضار مقدمات مختصرة من كتاب "التقريب" عند شروعه في أي مناظرة أو خلال تقريره لآرائه والانتصار لمدرسة أهل الظاهر، والمقصود أن هذا الكتاب العقائدي "الفصل في الملل والأهواء والنحل" افتتحه أبو محمد بتثبيت نظرية المعرفة حتى تكون أساساً في مناقشاته وردوده على المخالفين.

أما طريقة ترتيب ابن حزم لكتابه هذا، فقد خصص الجزء الأول لمجموعة من القضايا كالرد على الدهريين والتناسخيين ومناقشة مسائل يقول بها اليهود والنصارى، ثم خصص الجزء الثاني لمناقشة تفصيلية مطولة لعقائد النصارى ونقد أناجيلهم المحرَّفة تنمُّ عن اطلاع واسع على نُسخ الأناجيل ومعرفة معمَّقة بتاريخ المسيحية وتحريفها، وأما الجزء الثالث فخصصه للكلام عن مسائل القضاء والقدر والرد على الطوائف التي اشتُهرت بالكلام عن القدر والمسائل التي شاعت في هذا الباب كالإضلال والبدل والأصلح وخلق الأفعال وغيرها، وأما الجزء الرابع فكان ميدانا للكلام عن النبوات والأنبياء ثم المفاضلة بين الصحابة وما تبع ذلك من تفصيل الكلام عن الإمامة والرد على الشيعة والخوارج وغيرهما من الطوائف المخالِفة لأهل الحق، وفي الجزء الخامس والأخير ناقش مسائل متفرقة كنُبُوَّة النساء والرؤيا والطبائع ومسألة الاسم والمسمى وغيرها من المسائل المشتهرة في فروع العقائد.

ويمكنني أن أختم هذه الورقة البحثية التي خصصتها لتوصيف مشروع ابن حزم وأنه نموذج للمسلم الفعَّال والحضاري بالقول: إن الفرد هو مجموعة متداخلة من الطاقات الذهنية والروحية والجسدية التي تمثل عند استغلالها الحركة الأولية لعجلة الحضارة الإنسانية، وإن منطق العمل هو العنصر الغائب عن المجتمعات الإسلامية المعاصرة وهو ما جعل الأمة تقوم بدور المستهلِك وتغيب عن دور المنتِج، والحتمية الطبيعية تقتضي أن المستهلِك معرَّضٌ للتأثُّر بكل العوامل الخارجية المفروضة عليه من الجهات التي تنتِج له المواد والوسائل الضرورية لحياته، وهذا ما يعني الغياب الحضاري وانعدام الشخصية الإسلامية بل وذوبانها في الحضارات الشرقية والغربية القوية، يقول المفكر الكبير مالك بن نبي: "ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق العملي في حياتنا؛ لأن العقل المجرد متوفر في بلادنا، غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه فشيءٌ يكاد يكون معدوماً" (شروط النهضة، ص: 139)

ثم يقول: "ولقد يقال: إن المجتمع الإسلامي يعيش طبقاً لمبادئ القرآن، ومع ذلك فمن الأصوب أن نقول: إنه يتكلم تبعاً لمبادئ القرآن لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه الإسلامي" (ص: 140).

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد