تعد تكنولوجية الصورة والإعلام إحدى ركائز التفوق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في المجتمعات الحديثة، نظراً لما لها من قدرة جبارة على الإقناع والتأثير والتوجيه، بل والتحكم في القيم وتغيير الأذواق والتمثلات والنظرة للأمور وللعالم؛ ما يفسر أن تكنولوجيا الصورة الحديثة بشتى تلاوينها السينما، التلفزة، الإنترنت.. إلخ، غدت سلطة فعالة في أيدي الدول الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات التي تسيطر على الصناعة الإعلامية، فما هي يا تُرى تجليات هذه السلطة؟
تستمد الصورة سلطانها مما نستثمره فيها من رغبات، وتقوم مقام رغباتنا في تحويل العالم، إن للصورة قوةً تأثيرية تفوق كل التوقعات، سيما أنها توظف مجموعة من التقنيات: السيناريو، الحوار، الإخراج، المونتاج، الإنارة، والماكياج، الإكسسوارات، المؤثرات الصوتية.. إلخ، بغية بسط سلطانها على المشاهد؛ فرهان هذا الاختراع البصري هو التحكم في زمام الأمور، وتكريس سلطته على الفضاء العام والخاص، من خلال:
قدرة الصورة السينمائية على إقحام المشاهد، الذي يفتقد للحس النقدي والتحليلي للخطاب السينمائي في عوالم جديدة، قد تغيّر من آرائه وقيمه ونظرته للأمور والعالم، وتجعله إنساناً خاضعاً لا ينفكّ من قيودها التي سحرته وأسرته وخلخلت بِناه النفسية والاجتماعية والثقافية والعقدية.. إلخ.
قدرة الخطاب السينمائي المرئي على تشكيل سنن ذهني عند المُشاهد، يربط الواقعي بالمتخيل؛ مما يحدث فوضى كبرى بين العالمين لديه وفي الوقت ذاته يصعّب من إمكانية تكيّفه مع واقعه المعيش.
لقد أحدثت الصورة – الآلة ارتجاجاً في النظام البصري المعاصر كما يقول رجيس دوبري "R. Debary"، وغيرت كيفية إدراكنا، وتمثلاتنا للعالم الذي نتنفسه؛ في هذا الشأن، يقول الكاتب الأميركي إدوارد برنيز المتخصص في علم السلوكيات البشرية في كتابه "الدعاية": إن السينما من أعظم الوسائل قدرةً على تشكيل الوعي الباطني للشعوب العالم؛ إن لم نقُل أنجعها على الإطلاق في غزو أفكارهم والسيطرة على آرائهم؛ إن السينما بإمكانها أن توحّد الأفكار والعادات لأي أُمة من الأمم؛ بما مفاده: أن هذه السينما ليست مجرد صور مجانية – فرجوية قصدها الإمتاع والمؤانسة، كما يعتقد البعض جهلاً- تعمل على بعد تزييني أو هامشي، بل هي حصان طروادة تتسرب منه الوصاية الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، على عقول الملايين من المُشاهدين جراء غياب فكر نقدي مضاد وعقلاني، يقيهم من شرّ التغليط والتمرير الممارس عليهم من طرفها بدهاء ماكر.
فهذه الصناعة السينمائية في رأي برنيز -دائماً- لها سلطة عظيمة على برمجة وتكييف العقول لإيجاد واقع بديل، لواقع موجود، يؤدي دوراً في إلغاء الذات والسيطرة على الأهواء، وضرب القيم والثقافات الوطنية للشعوب والترويج للعولمة الثقافية المبينة على الإخضاع والغزو الثقافي.
وبهذا المعنى، تغدو صناعة الصورة السينمائية، أداة ترويض تسعى إلى أن تجعل منا أسرى موضوعاتها وتصوراتها التي يؤسسها منظروها؛ إضافة إلى إنتاج كل تفاصيل حياتنا اليومية، بل ونصير أبواقها الآدمية؛ بمعنى أوضح تريد أن تتملكنا، وأن تتكلمنا – حسب تعبير هيدجر- عوض أن نتكلمها. تريد فصلنا عن جاذبية العقل والقيم والدين.. كما تريد إلباسنا ثوب الآخر، بدعوى الترفيه؛ يقول فوفوناركيس "Vauvenargues" لقد أعلن شيشرون "Chesteron شكلاً خفياً للسلطة، تحت قناع من الوداعة، فالطاغية المستبد ليس الرجل الذي يحكم عبر الرعب، بل هو الذي يحكم بالمحبة ويلعب كمن يعزف قيثارة.
فدلالة صورها تبطن غير ما تظهر، وتظهر خلاف ما تبطن، كأنها تتآمر علينا، الأمر الذي يؤكد أن الصورة السينمائية تؤسس لسلطة من نوع آخر، سلطة الوسيط الأكثر رواجاً من طرف الجميع، سلطتها سلمية لا تستعين بقنابل نووية أو دبابات، بقدر ما تستعين بالخطاب الرمزي المؤسس على تصورات ذهنية صاغت مبادئ السيطرة ولغتها، فيكفي مثلاً أن تترسخ صورة عن جماعة أو قضية أو حدث، حتى تنتشر في الأحاسيس العميقة وتؤثر بشكل بالغ في العمل السلوكي.
إن مفعول صور الأفلام ليس ظاهرة حديثة العهد، ففي الماضي ساعدت صور الأفلام التي تحطّ من قدر الآسيويين في نشر المشاعر المعادية لهم في الغرب قبل وأثناء بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد أنتجت شركة "International Film Corpration"، فيلماً تحت عنوان "Patria" سنة 1916، وفي هذا الشريط تحاول اليابان غزو الولايات المتحدة الأميركية بفيالق تجتاح كاليفورنيا.
ويحاول أحد الأميركيين من أصل ياباني أن يغتصب البطلة وأن يقترف أعمالاً شنيعة أخرى. كما تصور أفلام الدعاية الألمانية اليهود على أنهم أشخاص خطِرون في شريط اليهودي الهائم سنة 1933، بغية إقناع بعض الألمان بأنه من الوطنية القيام بتخليص الوطن من اليهود.
وعن هذا كتب الباحث ريتشارد تايلور "Richard Taylor" بأنه حتى اليهودي سيصبح معادياً للسامية بعد مشاهدته لهذا الشريط. وقد استغلت السينما الأميركية هذه السلطة في تشويه وتحوير تقديم صورة تشوبها مجموعة من المغالطات تجاه الشخصية المسلمة، وتتمثل في تطرفها واستهدافها للأبرياء وتعطشها للدماء وتجردها من الإنسانية. وهذا ما جسده فيلم قناص أميركي "American Sniper" لمخرجه "Clint Eastwood" الصادر سنة 2014، ويروي قصة "Chris Kyle" أشهر قناص في الجيش الأميركي فتكاً بالأرواح.
هذا الفيلم الذي يمجّد التدخل الأميركي في العراق، ويؤجج مشاعر الكراهية والحقد تجاه المسلمين من جهة، ومن جهة أخرى يصور لنا المخرج مدى براعة الشخصية الأميركية في مواجهة الإرهاب، وحبها المستميت للأمن والسلام.
ولعل أول مَن فطِن وهاجم نزعة السلطة في ثقافة السينما التي هدفها إخضاع الآخرين والهيمنة على وجودهم، وبرمجة سلوكهم الاجتماعي بواسطة الدعاية الخفية، الناقد والمؤرخ للفنون الكاتب الأميركي أروين بانوفسكي "Erwin Panofsky"، حيث أيقن دمارها الشامل في مقطع وجيز شديد الكثافة، وببلاغة فائقة؛ حيث قال: إن السينما، سواء أحببنا أم لم نحب، هي القوة التي تصوغ -أكثر مما تصوغ أي قوة أخرى- الآراء، والأذواق، واللغة، والزي، والسلوك، بل حتى المظهر البدني لجمهور يضم أكثر من % 60 من سكان الأرض.
باختصار، فالصورة هي سلطة السّلط -حسب دوبري-، بل هي السلطة الرمزية بامتياز، بمعنى أن خطابها يزاوج بين الظاهر والخفي: الظاهر بما هو بناء جمالي فني قصده الإمتاع والانتفاع، والخفي بما هو وسيلة تسويق لقيم مسكونة بهاجس الاستحواذ، بقيم غريبة عن المحيط الاجتماعي والثقافي للرائي.
وبهذا تكون الصورة السينمائية تعبيراً واضحاً عن ميولات صانعي خطاباتها، وعن رغباتهم الثاوية في عمق نفسهم البشرية، بإيجاد تصور ينسجم وتصوراتهم للعالم، ويصبح بمقدورهم تنصيب أنفسهم أسياداً على العالم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.