"العادة تبدأ سخيفة، ثم تصبح مألوفة، ثم تغدو معبودة" مصطفى السباعي.
مما لا شك فيه لكلٍّ طرقه في معالجة المشاكل ومحاولة التعايش معها، مع مراعاة المبادئ والأعراف، العواطف والعادات، التربية وفلسفة الحياة.
ولعل هذا التكوين وراء وقوع الشخص بين أحضان الفكر الجليدي؛ ليغدو أنموذجاً متمسكاً بجميل عادات التبعية ومحاسن التقليد، أو بإعمال العقل في محاولة لقهر المشاعر ومجاملة القدر في إطار حياة جديدة يبرز من خلالها التعامل الذاتي المستقل.
لكن كيف السبيل لتوثيق هذه التجارب حتى يتسنى للإنسان الاستعانة بها والاعتبار منها.. هذه التجارب التي تقصم الظهر في بعض الأحيان، وترفرف به فرحاً وسعادةً في أحيان أخرى؟
لكل شخص مفاتيح ذاتية لحجراته المغلقة يفتح بها أبواب عقله في الوقت الذي يشاء، وقد تهب في بعض الأحيان رياح التغيير فتفتح شبابيك قلبه بطريقة لا إرادية.
الفكرة واحدة والطرق مختلفة، كل حسب امتيازاته ومميزاته، تبدأ الأمور بالتجربة مروراً بقالبي الزمان والمكان، وصولاً إلى واقع مخزن يزودنا بهالة من المشاعر ولب الأحاسيس من قلب ذاكرة ذراتها منفصلة حسب طبيعة الوقائع التي تجعل الإنسان يرتمي في واقعه الخاص، ينتشي بلحظات حاسمة في تجاربه لا تحكم فيها ولا اختيار.
الأوراق الميتة هي عملية تأريخ وتوثيق للتجارب والعلاقات والمسارات، سواء الفاشلة أو الناجحة، لكل طريقته، هناك مَن يستعمل الصور الفوتوغرافية، وهناك مَن يوثق بأغنية وآخر بفيلم أو أكلة، أما أنا فطريقتي المفضلة هي الأوراق الميتة؛ حيث أجعل من مكتبتي مقبرة للذكريات، وأجعل كتبي ورواياتي قبوراً تدفن بها وقائع وتجارب وأحداث، عن طريق وضع نوع من أوراق الأشجار أو ورود وسط رواية أو كتاب أقرأه بالموازاة للحدث؛ ليصبح شيفرة خاصة، عادة اكتسبتها منذ أمد بعيد، واكتساب عادة أسهل بكثير من الإقلاع عنها، في بادئ الأمر تكون الأحداث معقدة ولا يستطيع العقل حل شيفراتها بسهولة، وتتداخل الوقائع بين خيال الرواية وحقيقة الحدث، أغمض عيني وأدع الأمر يمر ومع قليل من التركيز والتأمل يبدأ العقل بالتذكر وتمييز الأحداث المتفرقة؛ ليرجع مباشرة إلى الحقبة الزمنية المحددة، فينتشر أريجها في المكان لتعيش مجدداً نفس الأحاسيس وتتجرعها من جديد إيجابية كانت أم سلبية، هذا القانون لا يدرك بالعقل، وإنما يتم استيعابه بالحواس ليتركب انتقال بين الأفكار والأحاسيس يدفعنا إلى استيعاب التجارب والوعي بالذات.
لسنا في حاجة إلى سجال ثقافي حتى نؤكد المرور من ظاهرة الأوراق الميتة، فهي لا تعتمد على السن أو العِرق، المستوى الاجتماعي أو المعرفي، بقدر اعتمادها على التجارب ومعارك الحياة.
تبقى الأوراق الميتة عملية اتصال تعبر عن شعور بداخلنا قد يكون شعور حب أو كره، صداقة أو عداوة، فرح، فشل، أو اعتذار.
هي نوع من أنواع اللغة ورابط مقدس للشخص صاحب التجربة وأناه، لما تحمله بطياتها من أسمى المعاني الراقية والجميلة أو التعيسة المحبطة، وتعبر عما يخالجنا من ردود فعل، أحاسيس ومشاعر، وما يدور داخلنا من نقاء وصفاء أو غل وحقد.
تكمن روعتها في رمزيتها وبساطتها وعمقها، كلما رجعت إليها إلا ونشط الفكر وتحررت الذاكرة وفرت المشاعر وتكونت هالة من الأحاسيس؛ لتجد نفسك تسقط سقوطاً حراً في إحدى تجاربك السالفة دون سابق إنذار، وكم يؤلمني تساقط الأوراق الميتة في فصل الخريف.
الأوراق الميتة هي امتداد للماضي وسط الحاضر، سحابة عابرة يتساقط منها الحب والوفاء، الفشل والغدر، رابطة قوية لا تقدر بثمن، ليس بالضرورة أن تكون من أغلى المحلات، ومن أرفع الماركات، قد تكون في بعض الأحيان أوراقاً من الأشجار المجاورة للطرقات أو القابعة بالحدائق العمومية أو ورود زينة أو أزهار منزلية أو هدية عيد حب مصحوبة بكلمات فياضة بالمشاعر، كل شخص يساير الموقف بحسب إمكانياته ومقدرته وذوقه.
كيفما كانت الطريقة بالاستماع إلى الموسيقى أو بجمع الطوابع البريدية، قراءة الروايات، بالتقاط الصور الفوتوغرافية أو رسم جداريات أو لوحات، المهم أن تعيش ظاهرة الأوراق الميتة بطريقتك وتسميتك الخاصة، وتتحرر من كل القيود جاعلاً منها ظاهرة تحرك أحاسيسك وتخلق الفوضى بمشاعرك وتوقظ الطفل الصغير فيك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.