في طفولتي، كانت تخبرني أمي أنها تعرفني جيداً..تعرف كل التفاصيل الدقيقة التي تتعلق بي، تستطيع التأمل في بريق عيني فقط لتدرك ما إن كنت أكذب، وأن تلامس يدي الصغيرتين لتخبراها ما إن كنت المسؤولة عن فوضى المنزل، لكنني كبرت يا أمي، كبرت لدرجة أن لا أحد بات يعرفني.. أنا أيضاً لا أعرف نفسي أحياناً.
لا أحد يعرف من أنت.. فلا أحد يستطيع أن يعي ما بداخلك، يشعر بما تشعر، يفكر بما تفكر.. إلا إذا أخبرته أنت عما يوجد في أعماقك!
فلتعلم فقط أن الآخر لا يمكن له أن يتعرف عليك إلا إذا شاركته أنت أفكارك وصرحت له بمشاعرك، وعبرت له عن العالم الذي بداخلك، فأقصى ما يمكن له أن يعرفه عنك هو اسمك، نسبك، وتلك المعلومات الروتينية الغبية التي ربما قد لا تمثلك.
أكيد أنك صادفت أشخاصاً في حياتك يدعون أنهم يعرفون عنك الكثير، يعرفون جيداً شخصيتك وتصرفاتك وكل تفاصيلك، لكن الحقيقة أن كل ما يعقدونه عنك لا يكون غالباً سوى تمثلات وتصورات شخصية، ربطوها بتصرفاتك، وشخصيتك فظنوا بذلك أنهم يعرفونك.
وحدك تعرف نفسك، وحدك تعلم جيداً مدى ثقتك في نفسك ومدى قدرتك على تحمل أعباء هذه الحياة، وحدك تعرف جيداً متى كانت آخر مرة ابتسمت فيها بعمق ومتى سهرت تخفي مرارة دموعك، وتحبس أنفاس أنين الألم الذي أوجع قلبك.
أتتذكر حين بلغ الألم أقصى امتداده في قلبك، و كدت تسقط أرضاً.. حين تعثرت وتحطمت فنهضت كأن لا شيء يجري داخلك..نهضت فقاومت وتحدّيت كل الصعاب، واجتزت كل الثغرات فابتسمت للملأ کأنك جبل شامخ لا ينحني، شخص واثق، متمكن لا تنال منه الحياة ذرة.. فهل علم أحد حينها بكل تلك الصراعات التي كانت داخلك؟ أعلم أحد بذلك الوخز الحاد الذي كان يغزو قلبك، وكل ذلك التعب الذي كان يغمر روحك؟
وحدك علمت بذلك.. وحدك استطعت أن تكون سند نفسك وسر شجاعتها، لا أحد يعلم شدة ما تحملته غيرك أنت.. لا أحد يعلم كيف استطعت ترميم ذلك الكسر الذي كان يزعجك غيرك أنت، لا أحد يعلم كيف كسرت حواجز العجز التي كانت تقيدك، كيف ضمدت عمق الجرح الذي كان يدنو بصدرك، و كيف رتبت تلك الفوضى التي كانت داخلك، لا أحد.
لا بد أنك احتجت يوماً لمن يصغي إليك، لفضفضتك المملة وأحداثك الروتينية، لمن يمد لك يد العون على هيئة نصيحة أو كلمة طيبة. . فلم تجد إلا نفسك؛ فكانت لك خير صديق ورفيق.
أخبرتها بكل شيء، وتحدثت عن كل شيء بكل حرية وعفوية ودون أن تحرج من شيء، بلا قيود وبلا سلاسل، أخرجت كل المشاعر التي كانت تسكن قلبك؛ تحدثت.. فأخمدت كل النيران المتوهجة في قلبك، تحدثت.. فأرحت نفسك بنفسك، وخلدت للنوم. . فهل هنالك من يعرفك أكثر منك؟
جميل أن تذكر نفسك أحياناً كيف صبرت من أجل أمر يعنيك، وفعلت الكثير من أجل تحقيقه، كيف تحملت وحدك مشقة عمل لساعات متأخرة من الليل.. فأنهيته، كيف نميت وحدك قدراتك ومؤهلاتك.. فصرت شخصاً مميزاً، كيف تعرفت على أسوأ ما فيك..فغيرت نفسك للأحسن، كيف قاومت لتشفى من مرض أتعبك، ناضلت من أجل قضية تهمك وواجهت واقعاً قيدك، فتحررت من كل شيء مؤلم.
فهل أخبرك أحد حينها أنك شخص عظيم؟ هل اعترف لك أحد أنك متميز؟ ابتسم لك أحد فرحاً بما أنجزته؟ وحدك ابتسمت أولاً، وحدك شعرت أولاً بمتعة كل ما وصلت إليه.. لأنك وحدك تعرف نفسك جيداً وأولاً؛
لذا قف وصفق لنفسك بحرارة؛ لأنها وحدها تعرفك جيداً، أفكارك وشخصيتك من أعانتك وساندتك في كل الظروف..فاعتنِ بنفسك جيداً ودللها كثيراً، فلا أحد يعرفك غيرها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.