ذنبها إيه؟!

نزلتْ من سيارة الميكروباص، تهرول بخطوات سريعة متتالية، متجهةً نحو أحد المستشفيات العامة بالقاهرة الكبرى، وتحمل في يدها حقيبة سوداء وبالطو أبيض، فيبدو أنها تعمل ممرضة بهذا المستشفى أو مساعدة طبيب جراح، لا أعلم. ولكن من سرعة خطواتها، تأكدت أن هناك أمراً ما يستدعي السرعة، فربما هناك حالة مَرضية فى انتظارها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/06 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/06 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش

قيم المجتمع هي خرزات منظومات في سلك، إن قُطع السلك سقطت متتابعةً بعضها وراء بعض، ويسقط معها المجتمع في وحل حياة الغابات الحيوانية الخالية من الجنس البشري، لا يحكمها ضوابط أخلاقية أو عقائدية، فقط كل من فيها يتصارعون على أكل بعضهم بعضاً، ويكون المعيار الوحيد فيها للبقاء هو معيار القوة.

ما سأقصه عليكم في هذا المقال، ليس مشهداً مسرحياً أو حلقة من حلقات الكاميرا الخفية، فقط هو لقطة من حياة الغابات الحيوانية المذكورة أعلاه.

نزلتْ من سيارة الميكروباص، تهرول بخطوات سريعة متتالية، متجهةً نحو أحد المستشفيات العامة بالقاهرة الكبرى، وتحمل في يدها حقيبة سوداء وبالطو أبيض، فيبدو أنها تعمل ممرضة بهذا المستشفى أو مساعدة طبيب جراح، لا أعلم. ولكن من سرعة خطواتها، تأكدت أن هناك أمراً ما يستدعي السرعة، فربما هناك حالة مَرضية فى انتظارها.

أخذتْ تعدِّل وضع حقيبتها؛ لتساعدها في إسراع خطواتها أكثر، فسقط منها البالطو على الأرض فانحنت قليلاً لتلتقطه بسرعة وتكمل السير، وإذا بيدٍ تأتي من خلفها وتعبث بأعلى منتصف جسدها الأسفل، وتضرب بحرمة جسدها عُرض الحائط في وضح النهار؛ فانتفضت بصرخةٍ عاليةٍ اخترقت آذان الجميع وانتبه لها من هم في آخر الشارع قبل من يجاورونها.

ولكن، هى لم تنظر إلا فى عين هذا الوغد صاحب الفعل اللعين، وهو ينظر لها بابتسامة انتصار القاهر على المقهور! فلم تجد أمامها إلا رد الفعل الطبيعي على هذا الفعل الحيواني وقالت: "عملت كده؛ لأنك حيوان ومتخلف"، فعاد إليها بخطوتين أو ثلاث على الأكثر، ورفع يده فوق رأسه وصفعها على الجهة اليسرى من وجهها، فأطلق فمها الدم على الفور، قطرات على شفتيها.

لكن هذا فقط لن يشفع للضعيف في حياة الغابات، وبالفعل ثنى الضرب بركلة شديدة بقدمه اليمنى في ساقها اليسرى، انحنت من شدة الضربة وبدأت تفقد توازنها الجسدي، في حضور جميع الكائنات من حولها ذكوراً وإناثاً، البعض يمر مرور الريح بلا صوت والبعض يقف قريباً منهما أو بجوارهما أو على الرصيف المقابل لهم، والجميع صامت ساكن (يتفرج بهدوء) وكأنهم يشاهدون مشهداً تمثيلياً، وليست فتاة يتم دهس كرامتها واستحلال جسدها أمامهم!

ولم يتكلم أحد سوى هو موجِّهاً كلامه لها "عايزة تنضربي تاني يا…"، وهي لم تعد قادرة على الرد، فقط تحدق في عين الجميع مِن حولها، وتصارع برموشها دموعها ألا تنزل؛ حتى لا تمنحه لذة الانتصار، وتحاول أن تُظهر قوتها وقدرتها على تحمُّل أفعال حفيد الشيطان إذا كان للشيطان حفيد!

ومسحت الدم من على فمها بظهر يدها، وواصلت النظر إلى الجميع ولكنها لا تعاتب أحداً، فلا شيء يفسر هذه البربرية سوى أننا نعيش في غابة! فقط، تحدق في عين الجميع وكأنها تقول لهم: هو لم ينتصر عليَّ بعدُ، هو فقط انتصر عليكم أنتم حينما أسكت صوت الحق والإنسانية بينكم، وقتل النخوة والشهامة في نفوسكم وقذف الرعب في قلوبكم، فما الذي يمكن أن أقوله لكم فيحيا كل هذا فيكم من جديد، فأنتم لا تحتاجون كلامي، أنتم تحتاجون معجزة إلهية حتى تعود إليكم صفات البشر مرة ثانية.

كل هذا المشهد لا يتخطى الدقيقتين والنصف في مكان مزدحم بالمارة؛ فمكان الواقعة لا يبعد سوى مائة متر فقط عن موقف السيارات الذي خرجت هي منه، ولكن لم يتجرأ أحد على دفع الظلم عن فتاة ضئيلة، لمجرد أنه بلطجي معروف بينهم ومن سيتدخل فسيعترضه هذا الكائن فيما بعد، حتى رجال الشرطة الذين يقفون على مدخل الموقف الأمامى وشاهدوا الواقعة منذ بدايتها، أيضاً لم يتدخلوا!

فكان سلوك الفرجة هو الوضع الوحيد الذي فرض سيطرته على الجميع، فقد تبلدت المشاعر من كثرة اعتياد مشاهدة تلك الوقائع، وبدأ البعض إدمان النظر لمثل هذه الحوادث اليومية، فهذه واقعة واحدة من بين مئات وقائع التحرش التي تحدث في اليوم الواحد، وأصبحت الردود على الشكوى منها روتينية؛ فلو استنجدت هذه الفتاة بالإعلام لِتقتصَّ لحرمة جسدها فسيتوجه الاتهام لها مباشرة بأن لباسها هو السبب في إحداث الأمر من بدايته، وإذا قدمت الشكوى لأهلها فسيكون الرد في الغالب "معلش"!

فما الذنب الذي اقترفته تلك الفتاة ليعاقبها المجتمع بهذه القسوة؟! وما الفعل المنتظر منها حينما يذهب إليها أحد المتفرجين أو حتى المتحرش نفسه مصاباً أو مريضاً؟! هل ما زالتم تنتظرون منها ـن تسارع في تخفيف آلامكم ومداواة جروحكم؟! ولِم تأسف هي عليكم وأنت لم تأسفوا عليها ولم ترحموا ضعفها وقلة حيلتها؟! عليكم أن تعلموا أن الجزاء لا بد أن يكون من جنس العمل.

وعليك أيضاً أن تعلم -يا عزيزى- أنه بينما أنت تتفرج عليها ولم يتحرك لك ساكن، أحدهم أيضاً يتفرج على نسائك وهن في الوضع نفسه في التوقيت نفسه، أو ربما غداً، وأيضاً لن يتحرك له ساكن، فنحن جميعاً نعيش في مجتمع واحد نتناقل الثقافات فيما بيننا ونمارس سلوكيات متشابهة إلى حد كبير ونورثها أيضاً.

وإن كان ما زال يوجد في مجتمعنا شيء من الأمان على حياة وحريات الفتيات، ما رأينا فتاة تظهر وهي حالقة شعرها، معللةً فعلها هذا بأنها هكذا تحمي نفسها من حوادث التحرش المتكررة، محمِّلة الدولة مسؤولية ذلك، وهي لها الحق في كل ما قالته، فإن كانت الدولة قادرة على تأمين ليونيل ميسى والبابا فرانسيس بهذا الشكل، فلماذا لا تعامل المصريات والمصريين بالمعاملة نفسها، أليس الأقربون أولى بالمعروف؟!

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد