قال الإمامُ ابنُ حزمٍ الأندلسيُّ: "لا آفةَ على العلوم وأهلها أضرَّ من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنُّون أنهم يَعْلمون، ويُفْسِدون ويُقَدِّرون أنهم يُصْلِحون" (السِّيَر والأخلاق في مداواة النفوس: 1/ 23).
هذا النص في أخلاقيَّات العلوم والمعارف يُعَدُّ من أشهر النصوص التي يَستأنِسُ بها الفقهاء في تربية طلبة العلم ومُريدي التفقُّهِ؛ إذ يحمِلُ بين طيَّاتِهِ معانيَ جمَّةً غاب كثيرٌ منها عن مناهج التدريس والتلقِّي في عصرنا هذا، خاصة مع انتشار المعلومة في مسارٍ فوضويٍّ لا يمكن ضبطُهُ إلا بيد الراسخين في العلم، وإلا فهو مسارٌ جعل كلَّ قارئٍ فقيهاً مجتهِداً يمكنه الفصلُ في الأحكام الشرعيَّة صغيرِها وكبيرِها والجدالُ عن رأيه بكل قوة ودون أي تردد.
والمتأمل الناظر بعين البصيرة لا يمكنه امتداح هذا الأمر؛ لأنه أفضى إلى اقتحام الجَهَلة علومَ الشريعة ليضربوا بمناهج العلماء عُرض الحائط ويختلقوا مذاهبَ لهم ليست في العِير ولا في النفير؛ بل هي مَزيجٌ من الجرأة والجهالة وقلة التقدير، فهل كان ابنُ حزمٍ الذي ثار على الفقهاء التقليديين من مالكية الأندلس يظنُّ أن الفقه الإسلامي سيتعرَّضُ للاستباحة من كل ضابحٍ وناعقٍ؟!
طبعاً لا؛ فابن حزم إنما كان يوجِّهُ نقدَه اللاذعَ إلى شريحةِ الفقهاء الذين قطعوا أشواطاً طويلة في طلب العلم ولكنهم التزموا تقليد ما جاء في "المدوَّنة" التي يرويها سُحنون القيرواني عن ابن القاسم المصري عن مالك بن أنس!
فالنقد كان موجَّهاً لمستوًى عالٍ جدّاً من مستويات العلم الشرعي، هؤلاء المالكية الذين كان يشنُّ عليهم مولانا ابن حزمٍ غاراتِهِ كانوا فقهاءَ لا يُشَقُّ لهم غبارٌ في تأصيل المذهب المالكي وتحصيله، ولكن موسوعيَّته جعلتْه ينظر إليهم بغير عين الرضا، فقد طالبهم بأن يوسِّعوا مَداركهم العلمية والمعرفية بدراسة كتب الحديث وفقه المذاهب الأخرى ودراسة المنطق؛ حتى تكون لهم اختياراتهم الخاصة بهم ولا يكونوا مجرَّد مقلِّدين.
في عصرنا هذا، ضاعت علوم الشريعة من صدور المتعلِّمين، فلا يمكن أن نجد فقيهاً أو طالب علم قرأ كتاب "المدوَّنة"، فضلاً عن دراسته وتحليله وتوظيفه في نوازل العصر، ومع ذلك نجد كَمّاً كبيراً من الآراء والمذاهب والاختيارات التي تناقض روح الشريعة ونصوصها!
والعجب أن هؤلاء ليسوا من طلبة العلم الشرعي، لا بالمنهج الأكاديمي ولا بالطريقة التقليدية، يجادلونك في الشريعة وهم لا يتقنون مصطلحاً واحداً من مصطلحات أصول الفقه أو الفقه المقارن أو علوم الحديث أو القواعد الفقهية وغيرها من العلوم الشرعية، بضاعتهم هي قراءة بضعة مقالات على الإنترنت لا خُطُمَ لها ولا أَزِمَّةَ، فتُستثار نفوسُهم للكلام فيما تقع عليه عيونُهم، غيرَ مُبالين بضوابط التفقُّه والفتوى، ودون أن يحترموا أهل العلم ومَكانتهم ولا أن يدركوا موضع أنفسهم من كلِّ ذلك.
هذه الظاهرة التي أصفها ليست إلا مصداقاً للحديث النبوي الذي يرويه عبد الله بن عمرِو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئِلوا فأَفْتَوا بغير علم، فضَلُّوا وأضَلُّوا" (رواه البخاري: 100، ومسلم: 2673).
هذا الحديث يوضِّحُ لنا إحدى أَمارات الانحطاط الذي يصيب أمَّتَنا الإسلامية، وذلك بنقص العلماء حتى يحُلَّ محلَّهم الجُهَّالُ الذين يُفتون بغير علم فيتسبَّبون في ضلال أنفسهم وضلال غيرهم، وهذا هو بالضبط ما نشهده منذ عشرة عقود تقريباً، حيث تراجعت مكانة الفقهاء المتمرِّسين ونسِيَ الناسُ أهل العلم الحقيقيِّين واتَّخذوا بدلَهم مجموعةً ممن يتكلَّمون دون أن يتعلَّموا، ويَهرِفون بما لا يعرِفون، ويسهُلُ عليهم الفصل في النوازل وإبطال الأحكام الشرعية حتى لو كانت ثابتةً بالنصِّ والإجماع.
وهذا تماماً ما لمستُهُ فيما كتبتْه امرأة من المغرب تدعى "حنان اليوسفي" عن مسألة الحجاب ولباس المرأة المسلمة، وحين قرأتُ كلامها في تدوينتين منفصِلتين شعَرتُ بمصداقية الحديث الآنف الذِّكْر، وأن الجهلة يتكلَّمون لنقض أحكام الشريعة؛ لأنهم وجدوا الساحة خاليةً من أهل العلم.
ولا يحتاج كلام "اليوسفي" كثيراً من الوقت لإبطاله؛ إذْ هو جعجعة إنشائيَّةٌ لا معنى لها في ميزان التحقيق، فالمرأة لم تكتب طرحاً فقهيّاً يستحق النقاش؛ بل كتبتْ أحاسيسَ نفسيَّةً يمكن لأي ذي حِسٍّ أن يشعُرَ بها، ولا أدري هل قرأت "اليوسفي" القرآن وبعض الأحاديث في الموضوع أم لا؟ وأنا سأتلو عليها آية قرآنية من سورة "الأحزاب" ينصُّ اللهُ -تعالى- فيها نصّاً واضحاً لا يحتمل إلا معنى واحداً هو وجوب ارتداء المرأة للجلباب، هذه الآية هي قول الله -سبحانه:
"يا أيُّها النبيُّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنِين عليهنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ، ذلك أدنى أن يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ، وكان الله غفوراً رحيماً" (الأحزاب: 59).
وسأنقل -باختصار- كلام المفسِّرين في شرح معنى هذه الآية؛ حتى يُدرك الجاهلون أنه لا خلاف في وجوب الحجاب على المرأة المسلمة وأن من خالف ذلك فقد خالف النصَّ والإجماع، ومن خالف النصَّ والإجماع فقد نادى على نفسِهِ بالجهل وقلة العقل، وفيما يلي كلام المفسِّرين:
1- قال الإمام ابن جرير الطبري: "لا يتشبَّهْنَ بالإماء في لباسهن إذا هن خرجْن من بيوتهن لحاجتهن، فكشَفْنَ شعورهن ووجوههن، ولكن ليُدْنِين عليهن من جلابيبهن لئلا يعرض لهن فاسق -إذا علم أنهن حرائر- بأذًى من قول".
فالطبريُّ يصرِّح بأن الله أمر النساء بارتداء الجلباب؛ حتى لا يتشبَّهْنَ بالجواري والإماء، وهذا جليٌّ في أن لباس المرأة الحُرَّة هو الجلباب.
2- قال الإمام القرطبي: " لما كانت عادة العربيات التبذل وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعُّب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يأمرُهَنَّ بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن -وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف- فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتُعْرَفَ الحرائر بسِتْرِهِنَّ، فيَكُفَّ عن معارضتهن مَن كان عَزْباً أو شاباً".
وكلام القرطبي موافق لكلام الطبريِّ قبله، ثم ذكر القرطبي اختلاف العلماء في صورة الجلباب الذي يجب على المرأة أن تلبسه وذكر عدة أقوال مختلفة في اشتراط بعض الشروط، لكنها كلها متفقة في وجوب ستر الشعر وسائر الجسم ويكون الرداء غيرَ واصفٍ ولا شافٍّ عمَّا تحته، فهذه أربعة شروط متفق عليها بين كل الفقهاء والمفسرين: ستر الشعر، وستر الجسم، وألا يكون واصفاً لملامح الجسم، وألا يكون شافّاً عمَّا تحته، وتفصيل كل ذلك في تفسير العلماء للآية السابقة من كُتُبِهم.
لم أقصد بتدوينتي هذه مطارَحة فقهية أو مناظرة علمية، ولكني أريد التنبيه على موضعين أخلاقيَّين في مسيرة الفكر الذي يعاني أزماتٍ عدَّة:
• ألا يجادل الإنسانُ فيما لا يعلم، فقد قال الله تعالى: "ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً".
• فإذا جادل فليُقدِّمْ دليلاً علميّاً لا كلاما إنشائيّاً، والله -تعالى- يقول: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
وأنصح "اليوسفي" بتصحيح مسارها من خلال تعلُّم لغتها ودينها؛ فإنها حين تخلع عباءة الجهل ستعرف ربَّها أكثر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.