لقد أحببت تسمية "أبي فُطرس" أكثر مما ينبغي، فقد جسّدت لي حقيقة جهلي بأقرب البلاد إليّ، فلم أكن جاهلًا بهذه التسميّة فقط، بل إنني لم أكن أعرف عن تاريخ هذه المنطقة إلا معلومة واحدة ووحيدة هي أن أولى المستوطنات الصهيونية أُسست فيها على أراضي قرية "ملبس" الفلسطينية والتي أصبح اسمها "بيتاح تكفا" وترجمتها للعربية تعني: "فتحة الأمل"!
لاحقًا اكتشفت أنه وفي بلاد أبي فُطرس، وقبل أن تؤسس "فتحة الأمل" الصهيونيّة بأكثر من 3000 عام، كانت هذه المُنطقة تُدعى "أفيق"، وفيها حصلت أكبر المعارك بين الفلسطينيين القُدماء وبني اسرائيل وفيها خسروا تابوت العهد وهُزموا، وهو الصندوق الذي حفظوا فيه ألواح التوراة الموسوية وعصا موسى – عليه السلام – وبعض ثيابه وشيء مما يخص هارون – عليه السلام -، ولم ينس الصهاينة ذلك، فأطلقوا على إحدى أهم المناطق الصناعية في هذه المنطقة اسم "أفيق"!
"في 30 نوفمبر 1947، الساعة 08:20 دقيقة، قامت كتيبة من ثمانية أشخاص أسسها سيف الدين أبو كشك في يافا بالهجوم على حافلة لليهود كانت في تمر بالقرب من كفار سيركين -قرب بيتاح تكفا-، قُتل يومها خمسة وجُرح آخرون، وبعد ساعتين هُوجمت حافلة أخرى.."، بهذه الكلمات يؤرخ الباحث الصهيوني "بيني موريس" في كتابه "1948" لبداية حرب 1948 مُحاولًا أن يُدعّم الديباجة الصهيونيّة بأن كتائب "الهغانا" -وتعني الدفاع- لم تفعل شيئًا إلا الدفاع عن النفس من "الفلسطيني الجائر" الذي يرفض قرار التقسيم الذي أقر بمنح الصهاينة 55% من أرض فلسطين لتكون "يهوديّة"، والتي ضاعت بموجبها كُل بلاد أبي فُطرس، ومُحيت قرى كثيرة مثل قرية "مويلح" و"أبو كشك" و"الجماسين" و"الشيخ مونس" لتحل محلها "رمات أفيف" و"رمات غان" و"بني براق" وبالطبع "بيتاح تكفا"!
في الواقع، فإن الحرب على فلسطين لم تبدأ في 30 نوفمبر 1947 كما يزعم "موريس"، فمن زار مصب نهر أبي فطرس فسيرى نصبًا تذكاريًا يحمل حكاية بداية ضياع فلسطين الحقيقية، وهو نصب يُخلد انتصار القوات الإنجليزيّة على القوات العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى بعد أن استمر الحُكم العثماني لأكثر من 400 عام منذ عام 1517 إلى عام 1918.
حكايات أبي فُطرس لا تنتهي، كحال أرض فلسطين مع الغُزاة، فقد غزاها الفراعنة والفرس والفرنجة والتتار وغيرهم، إلا أننا لو تصفحنا كتابًا مثل كتاب "الملاحم والفتن لابن حماد" سنجده يُذكرنا بمعركة أخرى "قادمة" هي المعركة مع الدجّال ولكنه ينقل لنا هذه المرّة حديثًا يُبشرنا فيه أن "النجاة من الدجّال عند أبي فطرس".. ولكن الحديث مقطوع، وبغض النظر عن صحّته، إلا أنه يكشف الكثير عن اهتمام بهذا النهر العجيب!
الحديث عن أبي فُطرس لا ينقطع عند أخبار المعارك والحروب، بل يمتد إلى حيث إبداع الله في خلقه ويكفينا تأمل مجرى النهر وهو يتلوى من منبعه عند رأس العين إلى مصبه عند "ميناء تل أبيب" سيفهم جيدًا لم سماه أجدانا بنهر "العوجا" فهو أعوج فعلًا، ولا يُدرك هذا حق الإدراك إلا من سار على طوله في مسار من أجمل مسارات فلسطين، وقد جعله الصهاينة جزءًا لا يتجزأ من "مسار إسرائيل" الذي يمتد من حدود صحراء سيناء إلى أعالي جبل الشيخ على الحدود مع سوريّا ولبنان وطوله حوالي 900 كم يقطعها الرحالة الصهاينة في 45 يوم!
قبل أن أعرف أبي فُطرس، لم أكن أعرف "مسار إسرائيل" الذي يمر على بُعد 5 دقائق من قريتي، والمؤسف أنني ما زلت لا أعرف أيّ عربي قطع هذا المسار من أوله إلى أخره بنيّة استكشاف أرض فلسطين وتاريخها، ولولا فاجعتي بجهل هذا التاريخ لما كُنت لأخرج في مسار مشي مع ثلّة من أصحابي من قريتي الصغيرة "كفربرا" مرورًا بنهر أبي فطرس إلى أن وصلنا مدينة يافا بعد حوالي 10 ساعات من المشي قطعنا فيها 40 كم!
لم تكن هذه آخر رحلة مشي، بل كانت من أول وأجمل رحلاتي الاستكشافيّة لتاريخ فلسطين الذي لم نتعلّمه في المدارس، فرُحت أزوره بمناسبة وبغير مناسبة، كُنت أختار منه مقطعًا أحيانًا، وأحيانًا أقطعه كُله.. ليس مرّة ولا اثنتين بل أكثر، مرّة مع أصدقاء ومرّة مع زوجتي ومرّة مع أخوتي الصغار .. وفي كُل مرّة كان أبي فُطرس يُعلمني أن أجمل الكنوز لا تكون بالضرورة في آخر العالم، بل قد تكون أقرب ما تكون إلينا.. ولكننا كالحمقى، لا نراها!
متعلقات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.