يقولون إن التاريخ يعيد نفسه، ولكن للأسف فإن الحمقى لا يتعلمون.
التاريخ غالباً ما يُعيد نفسه، مرة على شكل مأساة، وأخرى ربما على شكل مهزلة، وفي كل مرة – كما يقولون – تتكرر الحادثة التاريخية بإخراج جديد وممثلين جدد، ويأخذ التكرار التطور الزمني والمعرفي والتقني في الاعتبار، إلا أن جوهر الحدث المتكرر يبقى كما هو في الأصل وقد تذكرت هذه المقولة وأنا أتابع ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي اليوم.. إنه عصر ملوك طوائف جديد بكل أحداثه.
لمن لا يعرف عصر ملوك الطوائف فهو من أهم الفترات التي مرت في التاريخ الإسلامي، وتحديداً في فترة تاريخ الأندلس، ولقد اكتسبت هذه الحقبة كل هذه الشهرة بسبب كثرة الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها لأي دولة أو في أي زمان من الأزمان، إضافة إلى ذلك فإن هذه الفترة هي الفترة الفاصلة بين تاريخ الأندلس المجيد الذي سطع في كافة أرجاء الدنيا، وبين الحقبة التي أسفرت عن سقوط الأندلس في نهاية المطاف في عام 1492 ميلادية، فهذه الفترة هي بداية النهاية، كما يقولون.
بدأت حقبة ملوك الطوائف في الأندلس في عام 422 من الهجرة، عندما أعلن أبو الحزم بن جهور سقوط دولة الأمويين في الأندلس، مما دفع كل أمير من الأمراء إلى الاستقلال وبناء دولته المستقلة في الأندلس، عندها تفرقت الأندلس إلى طوائف متناحرة فيما بينها أدخلت الأطماع الخارجية إلى الأندلس.
سقطت دولة الخلافة بسبب ثورات الأمازيغيين، عندها قسمت الأندلس إلى نحو 22 دويلة صغيرة منها غرناطة وإشبيلية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة والبداجوز والبليار ومورور والبرازين والمرية، حيث ورثت هذه الدويلات ثروات الخلافة كلها.
ومن أبرز السلالات الحاكمة بنو العباد، وبنو الأفطس، وبنو غانية، وبنو عامر، وبنو نجيب، وبنو رزين، وبنو الصمادح، وبنو ذي النون، وبنو القاسم، وبنو جهور، وبنو هود، وبنو الأحمر، وبنو زيري، وبنو حمود.
كان الوضع العام في فترة الطوائف وضعاً متردياً جداً من جميع النواحي، فلم يكونوا متحدين، وكانوا متناحرين مختلفين، ووصل بهم الأمر إلى الاستعانة بالأجنبي ضد الآخرين، كما أنهم كانوا يدفعون الجزية لغيرهم من الدول في الشمال مثل ألفونسو السادس.
بل وبلغ الأمر ببعض ملوك الطوائف المسلمين مثل المعتمد بن عباد أن يعقد معاهدة مع ألفونسو السادس ملك الأعداء يتعهد فيها بعدم مقاومة الفونسو إذا أراد الاستيلاء على طليطلة!
هذا في الوقت الذي اهتم به هؤلاء الملوك بأنفسهم وتشييد القصور والانغمار في الملذات وكانوا يظلمون شعوبهم ويفرضون عليهم الضرائب!
سقطت طليطلة على مرأى ومسمع من المعتمد بن عباد، الذي غَلّت يدَهُ المعاهدةُ التي كان قد أبرمها مع ألفونسو؛ كي يعينه على جيرانه مقابل أن يتعهد المعتمد بأن يؤدي الجزية لملك قشتالة، وأن يطلق يده في طليطلة.
وعندما أفاق الملوك على الخطر الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من رقابهم، لم يكن أمامهم سوى الاستعانة بإخوانهم في الضفة الغربية من البحر المتوسط؛ حيث أقام المرابطون دولتهم القوية بقيادة (يوسف بن تاشفين).
ورغم تخوف ملوك الطوائف من المرابطين فإنهم وافقوا على الاستعانة بهم بعد أن أطلق المعتمد بن عباد مقولته الشهيرة (والله لئن أرعى الإبل في صحراء المغرب خير لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا)، فكان الانتصار الذي خلدته كتب التاريخ في معركة (الزلاقة)؛ حيث قتل معظم أفراد الجيش القشتالي، وأُسِر منهم من لم يُقتَل، وفرّ ألفونسو جريحاً مع نفر قليل من رجاله.
لم يتعظ ملوك الطوائف مما حدث وعادوا إلى ظلم شعوبهم والتواطؤ مع العدو ودفع الجزية له وكأن معركة الزلاقة والدم الذي سال بها كان هباء!
عندها ضجّ العلماء وذهبوا إلى يوسف بن تاشفين طالبين منه العودة إلى الأندلس لتخليص الشعب من طغيان هؤلاء الملوك وعبثهم بأقدار الشعوب ومقدراتها فكانت نهايتهم على يد أمير المرابطين الذي سبق أن خلصهم من ألفونسو وطغيانه وعبثه بهم، وبهذا استطاع بن تاشفين أن يضم كل بلاد الأندلس.
وعندما سألوا يوسف بن تاشفين عن سبب إقدامه على الإطاحة بملوك طوائف الأندلس، وهدم دولتهم المتعفنة، أجاب: كانوا السبب الأساسي في ذل الأمة، وكانوا يظلمون الرعية وكان همهم فقط البقاء على عروشهم، وكانوا خونة يتواطأون مع العدو، كانوا يدفعون الجزية لألفونسو ويسبهم في وجوههم، ويقولون له ما نحن إلا جباة أموال لك في بلادنا، المهم أن تضمن لنا عروشنا!
وقد شكل هذا العصر ظاهرة ظلت تتكرر من آن إلى آخر، بحيث لم تنجُ منها مرحلة من المراحل التاريخية، وإن اتخذت صوراً مختلفة في الشكل لكنها متحدة في المضمون والمقدمات والنتائج.
تُرى إلى أي مدى علينا أن نستحضر التاريخ أو نستلهمه ونحن نتابع ما يحدث على أرض الواقع في النقاط الباردة والساخنة من وطننا العربي المقسم والموزع على ملوك وأمراء طوائف يتناحرون على السلطة في بعض بقاعه، وآخرين يتآمرون عليه من خارج هذه البقاع.
بينما البقية الباقية منهم يتفرجون على ما يجري أمام سمعهم وبصرهم دون أن يحركوا ساكناً، إن ما يحدث في كل من فلسطين والعراق وسوريا واليمن لا يمكن إلا أن يعيدنا إلى عصر (ملوك الطوائف)، لنشاهد ملوك طوائف معاصرين لهم أجنداتهم الخاصة التي لا تخدم سوى طموحاتهم الضيقة، ولهم ولاءاتهم غير الوطنية التي تتنوع بتنوع الأطراف المستفيدة من النيران التي يشعلونها ويطلقون لهيبها في كل اتجاه، إنني أرى ألفونسو السادس بُعث من جديد في صورة ترامب كي يتحكم ويلهو بملوك طوائف العصر الحديث ويأخذ منهم الجزية، وكل همهم فقط هو إرضاؤه لضمان استمرارهم على عروشهم!
بل إننا نرى التخاذل من ملوك طوائف الأندلس في نصرة طليطلة وتركها فريسة سهلة للعدو هو نفسه يشبه تماماً التخاذل في نصرة الأقصى وتركه فريسة للعدو الصهيوني، بل إنه ويا لَلعجب تقوم الدول العربية بمحاصرة شقيقتها قطر وترك العدو الحقيقي وعمل تحالفات مع الصهاينة!
ونرى أن علماء السلطان أنفسهم في العصرين، سواء منهم مَن أفتى لملوك الطوائف أو يفتي اليوم لملوك الفصائل، والعلماء الصادقين أنفسهم في العصرين، سواء منهم من جاهد وحرض على الجهاد، أو طرح المبادرات للمّ الشمل والتوحد.
ونرى الشعب المكبوت من ملوك طوائف العصر الحديث هو نفس الشعب المكبوت من ملوك طوائف الأندلس، وجند ملوك طوائف العصر الحديث أنفسهم جند ملوك طوائف الأندلس.
وللأسف لا يملك (ملوك الطوائف) الجدد هؤلاء العقل الذي يدعوهم إلى تحكيم ضمائرهم الوطنية، وإمعان النظر فيما يقومون به، ودوافع ما يقومون به، ونتائج ما يقومون به، وتبعات ما يقومون به.
قبل أكثر من تسعة قرون عبر يوسف بن تاشفين البحر لينقذ (ملوك الطوائف) السابقين من ظلم الإسبان مرة، ثم عبره ثانيةً لينقذ الأندلس من ظلم (ملوك الطوائف) مرة أخرى.
فمن ذا الذي ينقذنا اليوم من ظلم (ملوك الطوائف) الجدد لأنفسهم ولنا، وللتاريخ الذي يعيد نفسه!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.