مرت ساعتان منذ أن غادرنا المدينة، بدأت سيارتنا الصغيرة تئنّ من وطأة الحمولة الكبيرة والطريق الجبلي غير الممهد الذي نسلكه. في زمن الحرب، وبعد أن قُطعت الطرق الرئيسية، لم يكن أمام البوسنيين من سبيل سوى اللجوء إلى هذه الطرق التي هجرها المسافرون ربما منذ الحرب العالمية الثانية.
وصلنا إلى مفترق يؤدي إلى طريقين، اختلف فقهاء السيارة المكتظة أيهما يجب علينا أن نسلكه، بعضنا قالوا إلى اليسار، وآخرون أكدوا أنه يجب أن ننحاز إلى اليمين. في حزم يأخذ ربان السيارة قراره المصيري، وما هي إلا 3 ساعات تمر ونصل إلى مفترق آخر، وقرار مصيري آخر: إلى اليمين أو إلى اليسار.
الخطورة هنا ليست في أن نضل الطريق، ولكن المصيبة أن أحد الطريقين يوصلك إلى قرى المسلمين، وهو المطلوب، والآخر إلى مناطق سيطرة الصرب، حيث إنك إما مقتول وإما أسير معذب.
يكاد هذا الأمر يتكرر بحذافيره طوال سنوات الحرب، وفي كل مرة أٌصاب بالهلع وأنا أرقب ركاب السيارة وهم يلصقون رؤوسهم بزجاج النوافذ، يرصدون أي علامات على جانبي الطريق يمكن أن تدلنا إلى أي الخيارين يجب أن ننحاز.
هذا المشهد حاضر في ذهني دائماً، وخصوصاً في أيامنا هذه، والمرء يسأل نفسه: أي الطريقين أسلك؟ وإلى من يجب أن أنحاز، والضباب الكثيف يحول دون تبيان الطريق؟!
لكن -والحق يقال- السؤال في حد ذاته بشارة خير، وعلامة صلاح، فالمخلصون وحدهم هم الذين يسألونه، أما الذين باعوا ضمائرهم فالمسألة واضحة لهم تماماً: "ننحاز دون تفكير إلى من يحقق مصالحنا بغض النظر عن خطئه أو صوابه".
الناس يتفرقون بين مذاهب وعقائد وأفكار شتى، وليس في ذلك عيب، كلٌّ يختار ما يؤمن به وما يحلو له، فإذا كنت ممن يـؤمن بالله واليوم الآخر فدع أمرهم لله يوم القيامة، وإن كنت غير ذلك فما الذي يضيرك في أن يختار الناس طرائق حياتهم، وأن يميلوا إلى فكرة اقتنعوا بها ورسخت في أذهانهم؟
لكن، اسمع: الذي يمكن أن يضيرك هو العدوان، هو أن تبغي فرقة على أخرى، فيجب عليك حينئذٍ ألا تقف ساكناً، وأن تنصر المظلوم حتى لو لم تتفق معه في لونه ورأيه ومعتقده، وحتى لو اتفق معك المعتدي في لونه ورأيه ومعتقده.
وإن كنت قد أسلفت أن السؤال دلالة خير، فإني أعود فأقول ليس دوماً، فأحياناً يكون الحق ظاهراً واضحاً للعيان، فإذا اختلط الأمر عليك، فتكون هذه مصيبة أخرى، فكيف لا تفرق بين الجاني والمجني عليه؟
وعلى كل حال، هناك دوماً علامات يُستدل بها على الطريق، ابحث مثلاً عن الصف الذي يكثر به الفاسدون والكذَّابون والقتلة، واهرب منه.. تلك الأسماء اللامعة المجرمة، هؤلاء الذين سرقوا شعوبهم، وباعوا أوطانهم، الفارّون من العدالة، الذين استغلوا مناصبهم السياسية في الثراء، الذين إذا حدثوا كذبوا، الذين قتلوا أو شاركوا في قتل أبناء بلدهم بدم بارد، بغض النظر عن أسماء الضحايا، محمد أو جورج، سني أم شيعي، مصري أم لبناني، هؤلاء ابعد عنهم وعن الصف الذي يضمهم.
ابعد عن الصف الذي يكثر به علماء السلطان، الذين يستغلون الدين في إصدار فتاوى تعزز من نفوذ حاكمهم، فيحلّون الحرام ويحرّمون الحلال، ويستنهضون شعوبهم تحت راية الدين؛ للاستعداء على إخوانهم، هؤلاء ابعد عنهم وعن الصف الذي يضمهم.
أعرف أنك ستقول إن هـؤلاء هنا وهناك، لم يخلُ فريق منهم، ولذا قلت لك: "الذي كثر به هؤلاء"، ولم أقل: "الذي خلا منهم الصف"، لا تبحث عن صف من الملائكة، لا تأتيه شائبة، تمنحه ولاءك وأنت مستريح البال، هذا أمر محال، ابحث عن السمة العامة التي تسيطر على هذا الصف أو ذاك، لتقرر أن تميل معه أو ضده.
أغبط الصحابة رضوان الله عليهم؛ لقد كانت الأمور أمامهم واضحة، أبيض وأسود، أما نحن فقد اختلط لدينا كل شيء بكل شيء، مفكرون عظماء، أساتذة جامعة، رجال دين، روائيون، علماء، كنا نستدل بهم، ونأنس بوجودهم في الحياة، فإذا هم اليوم كاذبون ومنافقون، والحجة "لقمة العيش".
وإذا كان أمرنا اليوم لا يتعلق بالدين، بمعنى أننا لسنا أمام خيار الإسلام أو غيره، فإنه لا مفر من الإقرار بأن الدين في مجتمعنا يضطلع بدور رئيس، سواء سلباً أو إيجاباً؛ ومن ثم فهو عامل مؤثر، ورغم ذلك فالعلماء، ومن اصطلح على تسميتهم رجال الدين، يخوضون هذه المعركة على الجانبين، فيزداد الأمر خلطاً لدى بعضنا، لكن اسمع لما يقولون، وأعمِل عقلك وتفكيرك، لم يخوِّل الله تعالى أحداً ليتحدث باسمه، ولا قدسية لأحد.
ثم دعك من الدين، خذ فلسطين مثلاً، كم تاجَر بها من متاجرٍ؟ وكم ضحى من أجلها من ضحى؟ فلسطين بالنسبة إليّ واحدة من العلامات التي يُهتدى بها إلى الطريق، انظر من معها ومن ضدها، انظر إلى هؤلاء الذين يتقربون من العدو، يخطبون وُدّه، هل تريد أن تكون بينهم؟
إنهم يتحدثون الآن كذباً عن خيانات الفلسطينيين المزعومة ليبرروا خياناتهم. وهل إذا خان الناس، فرضاً، يصبح مبرراً لك أن تخون؟ ثم لماذا لا يتحدثون عن نضالات الفلسطينيين، عن آلاف الأسرى والشهداء؟! لقد جعلوا الأقصى شأناً فلسطينياً بحتاً، لا يعني عامة المسلمين، ليصبح التنصل من حمايته أمراً طبيعياً، فهو شأن فلسطيني داخلي.
مَن الذين يزعجهم ما يزعج العدو؟ مَن الذين يتقربون منه؟ من الذين يدافعون عن مصالحه على حساب فلسطين وأهلها وكل رموزها العربية والإسلامية؟ هؤلاء فِرَّ منهم كما تفِرُّ من النار، فإن مجرد الاقتراب منهم يصيبك بشرر.
هل أخبرك بأمر آخر؟ انظر إلى من يستخفُّ بعقلك، فلا تتبعه، مثلاً هذا الذي ينسب إلى خصمه كل مصائب العالم ويطلب منك أن تصدقه، هل تعتقد أنه سيحترمك إن فعلت؟ القانون الرباني في هذا الشأن عظيم: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئآنُ قَوْمٍ علـى ألاَّ تَعْدِلُوا". اكره من تشاء، لكن العدل ألا تنسب إليه ما ليس به، ولا تصدق من يدِّعي هذه الأكاذيب، واعلم أنه بكذبه إنما يستخف بك أولاً، هو يعرف أنه يكذب، ويضحك ويسخر منك عندما تصدقه، وتدعمه، وتصفق له.
ومن الاستخفاف، استخدام مصطلحات في غير محلها، فيقال لك مثلاً "الإرهاب"، فيقفز في ذهنك مباشرةً هؤلاء الذين يروعون المواطنين الآمنين، ويقطعون رؤوسهم، ويغتصبون نساءهم، لكنك إذا بحثت وسألت فربما تكتشف أن المقصود ترويع جنود العدو، والإطاحة برموز الفساد في بلدك وتنحيتهم عن الحكم، والثورة عليهم.
الآن، هل تعبت من التفكير ومن النقاش، ومن متابعة تبادل اللكمات بين الفريقين؟ هل قررت أن تتوقف عن المتابعة والمشاهدة، وتنسحب من المجتمع، بعدما أُرهقت عصبياً ونفسياً بما فيه الكفاية؟ حسناً، أبشِر يا صاحبي.. فهذا هو المطلوب تماماً.
اترك للجاني الساحة خاليةً تماماً؛ حتى يتمكن من الانفراد بالقيم التي أنت تؤمن بها فيدمرها تدميراً، انسحب واترك لهم الميدان خالياً، ادخل بيتك والزمه، لكن لا تندم عندما تهرم وتجد أنك بمحض إرادتك شاركتَ بِصَمتك في الجريمة، ولا تبكِ عندما ينتهون من جريمتهم في الشارع ليقتحموا بيتك وعرضك!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.