قد تمر بأوقات عصيبة تقودك للانهيار مهما حاولت الصمود، تتحامل فيها الظروف عليك لتفجعك فيصيبك الوهن، تضعف جداً خلالها وتدرك بعدها أن كيانك هشّ أكثر مما تتخيل؛ تنهار فجأة، وتتهاوى في سقوط حر، ثم تذوب بدل أن تنكسر، تتخبط بين قلة الحيلة ورفض الواقع، تتيه وتفقد توازنك متأرجحاً على الخيط الرفيع الذي يفصل الوجود عن الفناء، تحس بأنك في دوامة لا مفر منها، وتشعر وكأنها نهايتك، لكنك لا تنتهي..
وقد يحدث أن تبكي في صمت، ثم تصرخ دون أن يحدث ذلك فرقاً، تشكو وتتذمر حتى تمل، تجرب أن تكابر فيخونك التحمل، وتحاول النهوض، ولا تقوى عليه فتستسلم، تتوالى إخفاقاتك، وتطول معاناتك؛ لتكتشف أن الأمر أكبر منك، فتطلب النجدة.. ننادي بصوت عالٍ ولا تجد من مجيب.
تستغيث متشبثاً بالناس وتستنزف بذلك طاقتك في الإمساك بهم والإيقاع بنفسك، تنفلت منك وتضيع فيهم، تتخلى عنك قبل أن يفعلوا هم ذلك، تخبرهم أنك في حاجة إليهم، وتغفل عن كون وضعك كفيلاً بترجمة ما تعيشه لو أنهم يكترثون حقاً، تتغابى لتغض الطرف عن لا مبالاتهم، تتهرب من حقيقة أنهم لا يهتمون أساساً.. لا يسمعون ما تقوله بصوت خافت، لا يحاولون فهم ما تعبر عنه بأشكال أخرى، لا يشكون في كون ضحكتك مزورة، لا يلحظون الدمع الساكن في قعر عينيك، يصدقونك بسرعة حين تخبرهم "أن كل شيء على ما يرام"، لا يلحّون للتأكد من أنك فعلاً بخير، يتركونك لوحدك حين تطلب ذلك، لا يوقفونك حين تتحدث عن نفسك بالسوء طامعاً في أن يفندوا ذلك مؤكدين العكس، لا يبذلون أي مجهود لأجلك، لا يطرحون الأسئلة ولا يساعدونك على إيجاد الأجوبة، لا يرونك أصلاً.
تدرك أن لا أحد يسند ظهرك، وأنك وحيد في محنتك، تتلاشى آلامك الأصلية أمام أخرى جديدة صنعتها بيديك، تكتشف أنك قد خسرت ما تبقى منك وتذهب لتلوم نفسك بحرقة باكيا كرامتك المجروحة، تندم لأنك طلبت المساعدة بصريح العبارة وخبت، وتتحسر لأنك شرحت أكثر مما يجب، ولم تفهم.. تنزوي كئيباً كقائد معركة مهزوم تعبان ومصاب، ثم تكتفي بلمس جروحك، وتمرير أصابعك عليها ضاغطاً بقوة حينما تحس أنك مسؤول عما آلت إليه حالك.
وبينما أنت تعاقبها، يتمرد ذلك الجزء المدفون في الجانب الأيسر من صدرك، فيبدل السخط حناناً ويمنحك الرغبة في احتضان روحك، شفقةً عليها بدل الانتقام منها.. تشعر بأنك لست مذنباً بالقدر الذي تتخيله، وتعي أن أقدارك كتبت بصيغة المفرد، وأنك أنت محورها.
عندها، تستشعر نسيماً يتسرب إلى جراحك بلطف فتبدأ بالاندمال؛ تبدأ بتقبل الأخطاء، وتجاهل الأذى، والرضا بالنصيب، فتصيبك السكينة.
تتذكر أن الله موجود إن هم غابوا.. حاضر دوماً وهو المجيب، يحتويك إن التجأت إليه، ويتكفل بك إن وكلت له أمرك، يقودك للتي هي أخير، وينجيك من شر ما لا تراه، يقويك إن تحاميت به، ويتولى أمرك إن فوضته إليه، يحس بك دون أن تنطق ويسمعك متى شكوت، يعطيك إن احتجت ويمنحك لو طلبت، يرحمك إن أخطأت ويهديك إن تهت، يغفر لك إن أخطأت ويجزيك إن أحسنت، يعلم نواياك وينظر إليها قبل أعمالك، يأخذ بيدك ويحسن إليك.. تتذكر أنه القريب الذي لا يغفل ولا يغيب، مبدل الأحوال ومقلب القلوب، العليم المحيط بكل شيء، القادر على إحياء روحك وشفاء قلبك.
تستوعب معنى أن يكون الله كبيراً.. أكبر من الهمّ وقادر على تبديده، ومن الفرج وغير عاجز عن تسريعه، أكبر مما يخيفك ومما ترغب فيه، مما تهرب منه وما تبحث عنه، مما تفعله وما انشغلت به، مما بين يديك وما في قلبك، ما تنويه وما تصبو إليه، ما أصابك وما يمكن أن يحدث لك، ما ضرك وما حطمك، أكبر من الأشياء ومن الظروف ومن الناس… أكبر منك ومنهم، ممن يعين ومن يتخلى، من يرحل ومن يبقى، ممن يعول عليه وما يستعان به، ممن يقصد ومما يستقوى به.. أكبر من الكبار ومن المستكبرين، من المتكبرين ومن المعاندين، من المتجبرين ومن المتعاظمين، ممن تركوك ومَن تشبثت بهم، مما يملكونه وما بلغوه، مما كانوا وما سيصبحون عليه..
تفطن إلى بساطة الموضوع، وتنتهي إلى عظمة الله وقدرته فيطمئن قلبك، لك رب حاضر لا يغيب أبداً، أكبر من الأرض ومن السماء ومن البحر ومن الكون بأسره، وأقوى مما فيهم وما عليهم وما بينهم، موجود أينما احتجته، وقادر على تحقيق كل ما رجوته، عظيم الشأن، وجبار، لكن رحيم، شديد العقاب وأيضا غفور رحيم، عليم وكريم، ولا يخذل مَن تمسك به.
تفهم أخيراً أن عليك أن تثق بربك، وهو يغنيك عمن تركوك وقت الشدة.. ربك الموجود، ربك الكبير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.