إن كان هناك حُبٌ من أول رحلة، فهو حُبي لمدينة إسطنبول التي شغفتني حُبًا حتى رُحت أزورها المرّة تلو المرّة دُون مللٍ من "السلطان أحمد" و"الفاتح"، بل وبشوقٍ لإطلالة على القرن الذهبي عند "التلفريك"، هذا غير أن للروائح في أسواقها سحرٌ خاص لا يُفسّر، تمامًا كما لا يُمكن تفسير كل هذا الحُب لمدينة مُكتظة جدًا وليس هُناك أسهل من أن تفوتك الطائرة بسبب الأزمات المروريّة الخانقة فيها، وفوق هذا تجد نفسك تُحبها بل وتبحث عن "بناتها" في ألمانيا!
في العاصمة الألمانية برلين هناك حوالي 200 ألف مواطن من أصول تركيّة، ومن لا يعرف "مقبرة الشهداء" فقد يتخيّل إليه أن الوجود التركي في برلين يعود إلى ستينيّات القرن الماضي فقط حيث جاؤوا كعُمّال، وقد ينطبق هذا على الأغلبية، ولكن لألمانيا وبرلين مع الأتراك حكاية طويلة، يُمكن لقصة عائلة "علي Aly" أن تفك بعض طلامسها، فقد أُسر جدّهم الأكبر في إحدى المعارك قبل أكثر من 300 عام، ثم تنصّر مثله مثل الكثير من الأسرى العثمانيين في تلك الأيام وصار اسمه "فريدريش علي" وتقدم في المراتب حتى صار من النُبلاء المعروفين في قصر شارلوتينبيرغ، ومن يبحث يجد الكثير من التفاصيل والحكايات، فالعلاقات بين القصير فيلهيلم الثاني والسلطان عبد الحميد الثاني كانت ممتازة خلال الحرب العالمية الأولى – أي قبل 100 عام – حتى إن القيصر دعى المُسلمين للجهاد أيام الحرب، كما أن هناك وثائق تشير إلى أن ألمانيا كانت وُجهة مميزة لطلبة العلم الأتراك في تلك الفترة.
في زيارتي الأخيرة إلى برلين، رُحت أتفقّد شيئا من ملامح هذا الوجود التاريخي، فوجدت نفسي أقصد حي "نويكولن Neukölln" المعروف بكثرة الأتراك والعرب من بين سكّانه، وهو لا يختلف كثيرًا عن حي كرويتسبيرغ الذي يُطلق عليه لقب "إسطنبول الصغيرة" لكثرة ما فيه من "الأتراك"، بل إن بعض الشوارع يكاد يكون كُل ما فيها تركي، بل ويُمكن للمتجول فيه أن ينسى أحيانًا أنه في ألمانيا تمامًا، فمن الحلاق إلى البقّال إلى المكاتب السياحيّة والمقاهي والمطاعم كلها قد تكون تركيّة، والحال لا يختلف كثيرًا في شارع "زونينآليه" المعروف بشارع العرب، والمهم أن هذه الأحياء التي يُسميها البعض "الغيتوهات التركيّة" – بالألمانيّة Türkenghetto – عانت في الماضي من الإهمال وبعضها يُعاني حتى اليوم من واقع مُعقد، ولهذا لا أحب أن أسميها "إسطنبول الصغيرة" فإسطنبول أكبر بكثير من أن ينحصر سحرها في محلات "الشاورما" و"البازار" ولافتات مكتوبة بالتركيّة، ولهذا أفضّل تسميتها "بنات إسطنبول"، فهي أشبه بحارات أنجبتها المدينة الأم "إسطنبول" وأودعت فيها شيئا من عبقها وحكاياتها، ولكنها لا تزال تبحث عن ذاتها في غُربتها.
ما يميّز حي "نويكولن" البرلينيّ أنه يحتضن معلمًا من المعالم الفريدة التي تجسّد الوجه المُشرق في العلاقات الألمانيّة العثمانيّة، حيث تقع مقبرة قديمة أهداها أحد الملوك الألمان للخليفة العثماني قبل أكثر من 150 عاما، وبالتالي فهي أقدم مقبرة إسلاميّة في ألمانيا وأقدم قبورها هو قبر "علي عزيز أفندي" وهو ثالث سفير عثماني في مملكة بروسيا – ألمانيا سابقًا -، حيث إن أول سفير عثماني في برلين كان قد عُيّن عام 1763 وكان يُدعى "رسمي أفندي" وذلك في زمن الملك "فريدريش العظيم" الذي صرّح بضرورة احترام الأديان المختلفة وأقر للمسلمين بحق بناء المساجد، ولا نستغرب من هذا حيث بنى والده عام 1732 للجند الأتراك مسجدًا في مدينة بوتسدام قرب برلين، ولكنه هُدم ولم يتبق منه شيء، إلا أن مسجد Şehitlik Camii الذي بُني عند المقبرة عام 2005 على الطراز العُثماني الأصيل والنصب التذكاري لأقدم السفراء العثمانيين قبل أكثر من 200 عام، يُمكن أن يذكرنا بشيء من عبق تلك الأيام.
الأكيد أن هذه الأحياء ليست حكرًا على برلين، فهناك الكثير منها وأبرزها في مدينة دويسبورغ الواقعة في بلاد "حوض الرور" أو "حوض الفحم" كما يُسمى أحيانًا لكثرة صناعة الفحم والفولاذ فيه سابقًا، وفيه لا تجد للأتراك معالم تاريخيّة، بيد أنهم شيّدوا عام 2008 في هذه المدينة مسجدًا يعكس مدى رسوخهم هناك، وهو مسجد دويسبورغ الجامع الذي تبلغ مساحته حوالي 2500 متر مربع وتم تجهيزه ليكون مركزًا للمسلمين وليس مُجرد مُصلى، حيث يوجد فيه مطعم ومقهى وقاعة للمحاضرات ويستقبل الزوار من الألمان، ومقارنة بغيره نجد أنه لم يُواجه باعتراضات شديدة على بنائه "الضخم" ومأذنته التي يصل طولها إلى 34 مترا، فقد بُني في حي من الأحياء التي "أنجبتها" إسطنبول، وهو حي "ماركسلوه Marxloh" حيث أكثر السُكان من أصول تركيّة، هذا طبعًا غير آلاف الأتراك الذين يأتون لزيارة الحي من كثرة ما سمعوا عنه، لما فيه من محلات المجوهرات وفساتين الزفاف والإكسسوارات وكل ما يُمكن أن ينفع المُقبلين والمقبلات على الزواج وبالتالي يُمكننا تسميته بـ "شارع العرايس"، وهذه لا تأتِ من مختلف المدن الألمانية فقط، بل حتى من فرنسا وبلجيكا وهولندا.
ورغم كُل هذا النجاح الذي يصل بالبعض أن يحلم بأن يتطور هذا الحي حتى يغدو كالمدينة الصينية في الولايات المتحدة الأمريكية، بيد أن البعض يُحاول أن يؤكد بكل ما أوتي من قوة أن هذا الحي هو من أخطر الأحياء في ألمانيا ويرى في الدخول إليه جنونًا ويعتبره No-Go-Area ، إلا أن الأغلبيّة الساحقة من العرب والأتراك ترى فيه بديلا ممتازًا لأسواق إسطنبول ومطاعمها، وبالفعل فجولة واحدة فيه تُنسيك كل تلك المزاعم بل وتنسيك أنك في ألمانيا، فأسماء المحلات، وحديث المارّة، والوجبات في المطعم .. تركيّة 99%!
في مدينة كولونيا أيضًا، المدينة التي صُنع فيها عطر الكولونيا قبل 300 عام، هناك اليوم حوالي 100 ألف مواطن من أصول تركيّة، أي حوالي 10% من السكان وهو ما قد لا يلاحظه زائر البلدة القديمة في كولونيا، بيد أن من يزور حي مثل مولهايم وإيرينفيلد سيُلاحظ ذلك بلا أدنى شك، وإن سألت عن "إسطنبول" في كولونيا يُشار إليك مُباشرة بزيارة Keupstraße وهو شارع يفتقر للكثير من الملامح المعماريّة العثمانيّة التي تزخر بها إسطنبول، ولكن فيه الكثير من المطاعم والمحلات التركيّة التي تُذكر الأتراك هناك بمجالسهم في "الوطن" ومُتعة الحديث بلغة الأجداد ففيه لا يحتاج المرء للغة الألمانية إن كان يجيد التركيّة – من كثرة الأتراك -، ولأنهم كُثر فقد كانوا ضحايا لهجوم إرهابي من إحدى جماعات النازيين الجُدد "NSU" وبلغ عدد الجرحى حينها 20 شخصًا إلا أن هذا لم يُفقد الشارع حيويته، فلا يزال بحد ذاته معلمًا يحمل شيئًا من عبق الحياة الإسطنبوليّة و"الوطن" ويُسمونه على صغره "إسطنبول الصغرى Klein-Istanbul" رغم صغره وتواضعه، والأكيد أنه ليس المعلم الوحيد للأتراك في كولونيا، فهناك مسجد كولونيا الجامع، الذي افتُتح في رمضان الأخير، وهذا وحده يستحق مدوّنة خاصّة.. تأتي لاحقًا، إن شاء الله!
هذة التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.