اتفقنا على أن أزوره في القاهرة مرة أخرى.. سنة 2008 بعد أن أصبحت وتيرة سفره إلى الخارج أقل في سنواته الأخيرة، كان يهاتفني دائماً قبل سفره إلى المغرب أو إلى أوروبا؛ لننسق لقاء، فشددت الرحال لملاقاته في الرباط، وجدة، باريس، ولندن، وفرانكفورت. كما أنه ظل يردد في السنتين الأخيرتين من حياته هذه الجملة "عند أول إمكانية سفر للخارج، أزورك في بروكسل يا بنتي".
كان يَسعد كثيراً عندما كان يعلم أنني كنت أجيز نفسي من العمل ومن الدراسة؛ لأسافر له فينعتني بـ"المجنونة"، عندما رافقتُه في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب سنة 2004 قال لي هذه الجملة: "أنا كنت عارف إنك مجنونة بس ما كنتش فاكرك للدرجة دي"، وكان ردي يأتي دائماً على هذا الشكل: "كما كان للحديث رجاله، فللفكر نساؤه!".
كان لهذا اللقاء رمزية خاصة عندي، فمن خلال كتاباته أولاً تعرفت على مدرسة فرانكفورت قبل أن تصبح جزءاً من دراستي. وزيادة في الرمزية، فقد صادف يوم ميلاده الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، في تلك السنة وفاة الفيلسوف جاك دريدا، لتختلط كلمات تهنئته برثاء صاحب مشروع "الضيافة L'hospitalité" والالتزام بقضايا المهاجرين غير الشرعيين في بلده.
ولأن التفكيكية أيضاً مما تعلمته أولاً من كتاباته في بداياتي، كان اتفاقنا أن أقدم له خلال لقائنا ذاك حصيلة عملي على إنتاجه الذي تبناه هو بتوفير بعض الكتب والمقالات؛ من هنا جاءت فكرة تحيين مشروع التحيز. أما الأهم، فكان التركيز على الالتزام، الخيط الناظم في شخصية الرجل.
لكن يبقى لزيارتي له في القاهرة سنة 2003 طعم خاص، فقد دعاني وهو في الرباط لأزوره في القاهرة وكانت الدعوة على هذا الشكل: "ما تيجي يا بنتي عندي القاهرة، نقعد براحتنا ونفكر مع بعض وتروحي معاي معرض الكتاب…"، طبعاً كان الإغراء كاملاً!
زيارة دخلتُ فيها عالمه الخاص، عشتُ فيها معه ولادة أفكار وصياغة مشاريع أبحاث، لكن الأهم من هذا كله معايشته في كل أدواره الاجتماعية تقريباً؛ فرأيت كيف كان زوجاً، كيف كان أباً، كيف كان جداً، كيف كان رب العمل، كيف كان مفكراً، كيف كان مبدعاً، كيف كان كاتباً، كيف كان مُعلماً، كيف كان صديقاً… ثم كيف كان يعشق الحياة.
أشهد له باتساق المنظومة الفكرية والحياة حتى في أبسط تفاصيلها اليومية، آلية الاستيعاب والتجاوز التي تعتبر محدِّداً منهاجياً من محددات القرآن الكريم عند بعض علمائنا ومفكرينا، كانت مَلَكة اكتسبها؛ ما جعله متميزاً في طريقة اشتغاله الخاصة مع الأفكار والأحداث والأشخاص.
عبد الوهاب المسيري ظاهرة إنسانية يصعب تكرارها، على الأقل في وقت وجيز، فقد جمع بين العلم والمعرفة والتفكير والموقف السياسي والنضالي والتعامل الإنساني والحس الجمالي. شخصية صقلتها القراءة ومصاحبة الناس واستكشاف العالم…
كان يمتلك من الكفاءة والتواضع العلميَّين ما جعله يتقبل النقد والملاحظات بصدر رحب، وهو ما ضمن له التصحيح والاستمرارية ثم التطور، كما أن مصاحبة الشباب عززت عنده التفاؤل والإيجابية والأمل.
صفات لازمَتْه حتى آخر أيامه، أما خفة الروح والنكتة فهما من أهم الجوانب المصرية في شخصيته.
كان يهاتفني بوتيرة منتظمة يسأل فيها عن كل شيء؛ عن الدراسة والعمل وظروف الإقامة والصحة، وعن أختي (التي سبقتني في معرفته) والأهل في المغرب والمشاعر… كان يسعى إلى أن يظل حاضراً في حياتي كما كنت أسعى أن يظل كذلك، علاقة الأبوة/ البنوة بنيناها معاً؛ فمنذ أول لقاء لم أنقطع عن السؤال عنه وعن الذين كان يُعزهم، حتى بعدما سافرت إلى بلجيكا بعد 10 سنوات وقتها، حاولت أن أوجد صلة تجمعنا معاً بالمكان الجديد.
فحُب عبد الوهاب المسيري لوطني الأم المغرب كان مميزاً، ولكي أنقل له حُبي لبلجيكا التي أصبحت وطن اختيار، كان المدخل هو الفن البلجيكي والمدن المشحونة بالتاريخ والثقافة. وكم كنت سعيدة بالتقاسم معه، كانت اهتماماته تدهشني، حتى علمت أن "الكوربة" من أجمل مناطق مصر الجديدة القاهرية (مدينة البارون أومباين) والتي كان يعشقها هي تمثيلاً للفن البلجيكي/المصري.
كنت حريصة أيضاً على تهنئته بعيد الأب كل سنة، وهي التهنئة التي أصبحت سُنة سَننتُها بعد أن عبر لي عن سعادته ودهشته في أول تهنئة ونزل علي بكمّ هائل من الأسئلة تخص موعد المناسبة وطقوسها، كنت أكتفي بمكالمة هاتفية للبعد الجغرافي، ولكني كنت أتمنى أن أقدم له أجمل هدية يمكن أن تقدمها ابنة لأبيها في عيده.
جاء دخول المسيري في حياتي بعد رحيل والدي بسنوات قليلة، ملأ فيها أخي الأكبر الفراغ بحُنو وانتباه ودفء في منتهى الشفافية، خاصة أنه الوحيد بيننا الذي عايش آخر أيام والدي -رحمه الله- الذي نزل عليه ضيفاً لأداء مناسك العمرة والحج، فوافاه الأجل بعد عمرة رمضانية ودُفن هناك.
أجلُ والدي الذي أخذه إلى الحجاز حرمني من توديع جثمانه وحضور جنازته، فكانت زيارة قبره مُنيتي للتخفيف من الكبت الذي تُولّده حالة عدم استيعاب الحدث، لكني علمت أنني حُرمت هذا الحق الإنساني الكوني، فقط لأنوثتي؛ ففي هذه البقعة من البلاد تُحرم النساء زيارة القبور! فكانت قسوة إضافية جاورت فيها قسوة اليُتم قسوة الظلم والتمييز.
الحس الإنساني الجمالي الذي كان يميز أبي المسيري رحمه الله، جعله يناديني بـ"ابنتي" و"عزيزتي" مبكراً جداً، وأعلم أنه لم يكن استثناء فقد كانت له قدرة فريدة على ربط علاقات إنسانية صادقة مع كل من حوله، "لاتساع النموذج" كما كنت أحب أن أقول له مشاغبة! على الرغم من أنه كان يُسمعني هذه الجملة عندما كان يُعجب بآرائي وأفكاري، "للأسف يا بنتي، إنت الاستثناء مش القاعدة".
وخلال أيامي القاهرية الجميلة رُفقته تَوّجني بهذا اللقب "أميرة في قلبي"، منذ ذلك الوقت لم يحرمني من سماعها فكانت خاتمة كل مكالمة هاتفية أو رسالة صوتية هي "تحياتي أيتها الأميرة"، وكان يخطها أيضاً إهداءً رقيقاً على كتبه.
علاقة الأبوة كانت مرحلة تالية لقرابة الفكر، فلقائي المسيري لم يكن إلا إضافة وجه إنساني للمفكر الذي استأنست بقراءته وسماع صوته مبكراً جداً، من خلال مقالاته وكتبه وتسجيلات محاضراته في الجامعات الفرنسية، مكنتني تلك الإضافة من خلق وحدة تصويرية "Une séquence vidéo" لما كنت أحمل له بداخلي من مشاعر حب وتقدير.
لم أنقطع أبداً عن متابعة أعماله، فلقد ظلّت أعماله حاضرة في قراءاتي، وأنا معه في معرض القاهرة للكتاب كان يزجرني عندما أشتري بعض كتبه ويقول: "كتبي تأخذيها هدية، ثم لا تشتريها وأنت برفقتي"، فكنت أرد عليه أني أفضل أن أسهم في إثرائه، فكان يبتسم رغم انزعاجه ويحترم رغبتي.
حدث أن هاتفني في غضون سنة 2002 أياماً قليلة بعد عمليته الجراحية في أميركا، طالباً عنواني الجديد في بروكسل؛ ليرسل بعض مقالاته بالإنكليزية التي كنت قد طلبتها منه لأقدمها لمجموعة من الأساتذة والباحثين في الجامعات البلجيكية، فاستغللت الفرصة لأطلب منه استكتاباً في مجلة "المنعطف" كان أحد الأساتذة المغاربة المشرفين عليها قد طلب مني ذلك، ففاجأني بهذا الرد الذي ما يزال صداه يُسمع في أذنيّ ولا أظنه سوف يغيب عنها أبداً، فقال: "لا يا بنتي، أنا لسه في فترة نقاهة، أنا أقرأ بس وما أقدرش أكتب"، حينها أدركت كم كان كبيراً وكم كان عظيماً!
أما أجمل المكالمات، فكانت تلك التي كنت أسميها "حالة الدفع الفكري"، فقد كان يهاتفني عندما تنتابه حالة تفكير جديدة أو عندما تتملكه رغبة التفكير بصوت عال، شاركني مراتٍ حالة ولادة فكرة أو كتابة كتاب، وكم كان يُسر في المرات التي كانت مكالماته تقطع مُتعتي بقراءة إنتاجاته ويسأل: لماذا لم تهاتفيني اليوم يا نعيمة؟ وأردُّ قائلة: "كما غنت أم كلثوم يا دكتور انشغلت بك عنك…".
مع مجموعة من أصدقائي الباحثين و/أو المهتمين بالسجلَّين الفكريين العربي الإسلامي والغربي، عكفنا على دراسة المشروع الفكري لعبد الوهاب المسيري كمشروع فكري أصيل يقدم للغرب نموذجاً لإنتاج عربي إسلامي بلغ درجة المحاججة العالمية ولامسَ مطلق الإنسان… عسى أن تكون هذه أولى بوادر حمل الرسالة وأداء الواجب العلمي الأخلاقي تجاه مفكر وقف عمرَه وماله للعلم ومحبيه، فتعلمنا منه كيف ينفق العالِم على علمه ولا يسترزق منه!
وأنا أرتب لزيارته صيف 2008 بتنسيق معه، فوجئت بخبر رحيله عن عالمنا، وتلقيت التعازي فيه من أسرتي أولاً، ومن أصدقائي، كلّ من مكانه، فانتابني شعور كبير بالتقصير نحوه في فترة حياته الأخيرة، أحيى كل المشاعر التي عشتها قبل سنوات عديدة مع وفاة والدي.
تلقيت خبر وفاته بالهاتف أولاً من أختي، التي كانت نفسها أول من أهداني كتبه، تعرفت عليه في المغرب ومن المغرب جاءني خبر وفاته. كان أول رد فعل لي أن طلبته على هاتفه الجوال وعندي رغبة وحيدة أن أسمع صوته! أن أسمع هذه الجملة "نعيييييييييييييمة! وحشتيييينيييييي إنت فين يا بنتي؟"، فرَدّ عليّ مُساعده وكنت أتمنى أن يخبرني بأن الدكتور نائم أو يأخذ علاجاً أو… لكنه أكد الخبر فطلبت منه أن أُكلم أي فرد من أسرته لأُكلّم ابنه ياسر معزيةً في والده أبي.
حملتني رغبتي المُلحّة في سماع صوته في تلك اللحظة على طلبه على هاتف البيت؛ لعلمي بأن الجميع كان ينتظر تسلّم جثمانه في المستشفى، فسمعت صوته على تسجيل رسالته الصوتية، وظللت أكررها كلما اشتقت إلى سماع صوته (وأعلم أني لم أكن الوحيدة)، فقد حافظت لنا الدكتورة هدى حجازي على كل خطوطه الهاتفية.
فقدان شخص مثل عبد الوهاب المسيري خسارة كبيرة لكل من اقترب منه أو عاشره، تُولد إحساساً بالمرارة والغربة واليُتم. إحساس متماثل في كتابات كل تلميذاته وتلاميذه ومحبيه، والروابط المسيرية التي كان يخلقها بينهم تعززت أكثر وأصبح كل واحد يجتهد في الوفاء والإخلاص لذكراه.
كان عزائي في مواصلة الاتصال بالدكتورة هدى حجازي رحمها الله، وبجميع أصدقائي وصديقاتي من بنات وأبناء المسيري، فكُتبه في مكتبتي وصوري معه وكلماته التي أسمع صداها، وذِكْرُه المتواصل في حديثي، كل هذا خلّد ذكراه، لكن شعور التقصير تملّكني كما تملّكتني قسوة الفراق وأنا أتأهب للقائه، فقررت أن أزور مصر.
في أحاديثي مع الدكتورة هدى، كنت أُعرب لها عن نيتي لزيارة القاهرة وزيارتها، وذلك في أثر عبد الوهاب المسيري، فكانت مُرحبة جداً، وسمحتُ لنفسي بأن أتدلل عليها وأشترط زيارة قبره خلال زيارتي؛ لأنها الوحيدة التي كانت ستسهل لي هذا الأمر.
كانت كريمة جداً ووعدتني بمرافقتي إلى دمنهور حيث يرقد في مثواه الأخير، وكانت هذه أيضاً لمسة دفء مسيرية ممتدة، من أُمّ كان يصفها المسيري بالأم المطلقة، ولكيْلا أحمّلها مشقة سفر من أجلي فكرتُ في حضور ذكراه السنوية الأولى؛ لأنها مناسبة لزيارته للجميع.
كان مهماً بالنسبة لي التنسيق مع بعض صديقاتي من تلميذاته؛ من أجل تجديد الصلة وربط أواصر الصداقة والأخوة المسيريتيْن التي كان حريصاً على تقوية عراها بيننا، فمن خلاله كنت أتابع أخبارهن وتطور حياة كل واحدة منهن، ففوجئت بالحفاوة والترحاب وبأن كل واحدة منهن تعرض عليّ الإقامة معها؛ إيماناً منهن بأن إكرامي وفاء لذكراه، يسعَد به في مكانه الذي هو فيه كما كان سيسعد لو كان ما يزال بيننا.
فبدأت إقامتي عند صديقتي/أختي يارا سمير؛ لأنها دعتني لزيارتها صباحَ وفاة الدكتور المسيري ووعدتها يومها بأن أول زيارة لي للقاهرة ستكون لها، وختمتها بالهدية التي جاءتني من الدكتورة هدى حجازي التي منحتني شرف الإقامة في بيته وفي الجناح الذي كان مخصصاً له (والنوم في غرفته)، فكان الشعور هناك من النوع الذي يُعاش ولا يُوصف!
أيضاً مع بداية إقامتي معها، أخذتنا (مجموعة من الصديقات والأصدقاء) على قارب في رحلة نيلية، استعدنا فيها ذكراه وناقشنا فيها الأفكار واستمتعنا فيها بغروب صيفي جميل.
كل ما كان يصدر من الدكتورة هدى ومن جميع صديقاتي وأصدقائي، كان يصدر عن حب غرس بذوره المسيري في قلوبنا ونفوسنا، وأصبحنا وكأننا تجسيد لشعر ابن عربي في رائعته "نشيد الحب".
في اليوم الذي تلا الذكرى السنوية التي حضرها الأهل والأصدقاء والتلاميذ والمُحبون، أخذتني الدكتورة هدى رفقة بعض أفراد الأسرة والتلميذات والتلاميذ إلى دمنهور، فكان الطريق زراعياً، وكان الشوق إلى الزيارة أكثر خضرة ونضارة، أثار فينا (ياسر، ويارا، وأنا) أسئلة حول أبوة المسيري، حول الموت وإدراكه، حول معناه وطقوسه، حول تمثلات الحزن والوفاء… حتى وصلنا إلى دمنهور، تلك المدينة التي دخلت مخيلاتنا من إحالات المسيري إليها في حكاياته وسيرته الذاتية، إحساس جميل انتابني عندما شعرت بأنني أسير في خطاه، فحافظت عليه وأنا صائمة عن الكلام حتى وصلنا المدافن، ووقفت على قبر أبي.
حينها فقط ودون تحكُّم مني تغير الإحساس بدموع هادئة، وديعة ودافئة…! دموع ادّخرتها سنة كاملة سرعان ما عبرتها ابتسامة شفافة ترجمت قوة الانفعالات الذهنية والعاطفية وتجاذباتها داخلي.
في هذا اليوم كما في باقي أيام الزيارة، كسبت صداقات جديدة من بنات وأبناء المسيري؛ منهم من كان يحدثني عنهم، ومنهم من كنت أقرأ له ومنهم من كان يسمع عني منه… لكي تتسع دائرة الأخوة والصداقة المسيريتَيْن بذكرى وفاته.
التسليم بالحرمان من شخص المسيري، نقلني والدكتورة هدى رحمها الله إلى عقد وفاء صامت، كانت تصف نفسها بأنها كالأطفال إما أن تحب الشخص وإما ألا تحبه، وكان من حسن حظي أن أحبتني كما أحببتها من أول لقاء، ساعدتني في تحقيق رغبة زيارة قبره وكانت سبباً في أن أتعرف على أصدقاء وصديقات من خيرة محيط عبد الوهاب المسيري رحمه الله.
وكذلك بعض أصدقاء العائلة من إسبان ونمساويين وفرنسيين وخليجيين كما كان يفعل المسيري نفسه حياً معي.
ليكتمل تواطؤنا في الوفاء للرجل بزيارتها لي في بروكسل صيف سنة 2010؛ تحقيقاً لواحدة من آخر رغباته.
أبي، أبا الجميع وصديق الجميع، إذا كتبتُ يوماً فلن يكون ذلك إلا إكراماً لذكراك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.