زمان بعد الكلية كانت لي محاولة للعمل في الصحافة، ولكن لم أجد مَن يقبل شغلي، أو يكلفني بشغل إلا الصحافة الحزبية ذات الميول الدينية، وهذه في رأيي لا مستقبل معها لغير المنتمين.
وفي الوقت المناسب تركت هذا، وركزت في دراساتي العليا، وتعلم لغات أخرى، وحسناً فعلت.
ومما أذكره في هذا الوقت أن إحدى هذه الصحف الحزبية كلَّفتني بعمل حوار مع الصحفي والمؤرخ أنور الجندي.
الحقيقة لم أكن أتصوّر أنه ما زال حياً يرزق، كنت أعرف عنه أشياء قليلة، مثل أنه صعيدي أسيوطي، وأنه وُلد سنة 1917، وأن له كتباً كثيرة جداً، ولكنها لم تكن تعجبني، وكنت أراها سطحية، وتقوم على التجميع والقص واللصق والتلوين الأيديولوجي، وهذا -في رأيي- ما يفسر كتابته لهذا العدد المهول من الكتب والدراسات في مجال التاريخ الأدبي والثقافي.
وسمعت أنه حصل على "جائزة الدولة التقديرية" سنة 1960، أي في عز سطوة الناصرية، ولكني لم أعرف قط في أي مجال، أو إن كان هذا حقيقياً.
مع العلم أن توفيق الحكيم حصل عليها في الآداب في العام نفسه، المهم أنه رغم ذلك ظل دائماً على الهامش الثقافي العام، ولا أفهم ماذا يغضب الكُتاب الإسلاميين في هذا، الموضوع في النهاية اختيار شخصي، وظني أن اختياره كان للعزلة والمناوءة من الهامش.
المهم أخذت تليفونه فوافق مباشرة على اللقاء، وعندما ذهبت إلى عنوانه يوم الإثنين 24 أكتوبر/تشرين الأول 1988، وجدت الرجل يعيش بالفعل في عزلة شبه تامة في منزل صغير وقديم جداً عند تقاطع شارعي الهرم والطالبية، لا بد أنه من أوائل البيوت التي بنيت عندما شق شارع الهرم، ولذا كانت له حديقة صغيرة بها بعض الأشجار الكالحة التي يراها كل مَن يسير قرب التقاطع.
في البداية استقبلني الرجل ببشاشة كبيرة وترحاب حقيقي واصطحبني إلى مكتبه، وقد دهشت جداً لمنظره وهو جالس على كرسي متهالك بين أكوام الكتب والمجلات والصحف المكومة في كل جنبات البيت، ولم أعلم هل كان هذا زهداً أم فقراً، وقلت لنفسي: يا له من مستقبل بائس في الانتظار!
ورغم أن الرجل كان قد بلغ من العمر عتياً فإنه كان ذا ذهن يقظ متوقد، وعلى درجة عالية من الصفاء والتركيز، ووجدته متابعاً ممتازاً لكل حركة في المجال الثقافي المصري والعربي.
ويمكن أن تلاحظ ذلك لو رتبت كتبه تاريخياً؛ حيث كان يسجل كل ذلك في كتبه التي تتوالى سريعاً، ولكنها لا تعلو عن المستوى المعتاد لكل كتاباته التي تدور في الغالب حول موضوعات قليلة، مثل: الغزو الثقافي، والتغريب، والتبشير، والمؤامرة الكونية على الإسلام والمسلمين.
وهي موضوعات تسيطر بطريقة غريبة على ذهن الكُتاب الإسلاميين المعاصرين، ولكن للأسف دائماً ما يتناولونها بسطحية غريبة وتكرار مريب!
المهم أنني تعجبت كيف يتاح له كل هذا في عزلته تلك! فحكى قليلاً عن جدوله اليومي الذي يبدأ بصلاة الفجر، ولما لاحظت كثرة الكتب والموسوعات الإنكليزية في مكتبته، عرفت منه أنه انتسب للجامعة الأميركية زمناً؛ حيث درس الاقتصاد، وأنه لذلك يجيد الإنكليزية، وكان هذا مفاجأة بالفعل؛ لأنه يخالف الصورة النمطية للكتاب الإسلاميين الذين يتخرجون عادة في الأزهر أو في دار العلوم وما شابههما.
وقد تحدثنا عن حياته وكتاباته النقدية لأعلام الحياة الثقافية في مصر وخارجها، وعن السياسة الثقافية في مصر، وكان هذا هو الموضوع الرئيسي للحوار.
وقد أسعده أنني ملمّ بكتاباته ضد طه حسين ولطفي السيد وسلامة موسى وجورجي زيدان والحكيم ونجيب محفوظ، وكيف أنه كان يراهم -وما زال- رموزاً لتيار التغريب، ويهوى وضعهم في "ميزان" الإسلام كما يتصوره أو يتخيله!
ويبدو أن الرجل لم يكن يعرف أن كتبه تملأ سوري الأزبكية والسيدة زينب، بل ولدى بائع الكتب المستعملة في المدينة الجامعية لجامعة القاهرة؛ حيث كنت أدرس!
وفي النهاية أهداني كتابه الجديد آنذاك "الفكر الغربي دراسة نقدية" وعليه الإهداء، وقد انصرفت على أمل الزيارة مرة أخرى، ولكنني لم أفعل.
وعندما مات في أواخر يناير/كانون الثاني سنة 2002 مات بهدوء، ولم يشعر به أحد في الحياة الثقافية الصاخبة بكل شيء، وعندها تذكرت صورته، وهو غارق بين أكوام الكتب والمجلات والجرائد المكومة في الجنبات، وترحمت عليه كثيراً، لكنني لا أعلم ما حدث لمكتبته الضخمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.