حاولنا حصر المكائد التي تعرّض لها الرسول محمّد – صلى الله عليه وسلم- في الجزأين السابقين من هذه المقالة.
وذكرنا فيها بعضاً من آيات التسرية التي نزلت عليه في رد إلهي على كل منها، وذلك لتثبيت فؤاده وللتخفيف عنه.
فالقرآن نزل رحمة وهدى للمؤمنين، وأول من تنعّم بهذا الفضل الكبير هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
وبما أن المكائد لا تتغير، وصفات الطغاة هي ذاتها في كل زمان ومكان، فإن ما عاناه الرسول الكريم يعانيه كل داعية للحق، من كذب وسجن وتنكيل وتعذيب وحتى القتل.
وبالتالي فإن كل آية تسرية خاطبت الرسول الكريم هي تخاطب أيضا كل مؤمن وداعية للحق، لإعانته على الثبات على طريق الحق والإيمان والهدى.
وفي هذا الجزء الثالث والأخير من آيات التسرية عن الرسول – صلى الله عليه وسلّم- نفصّل آيات أخرى نزلت للتسرية على قلبه من خلال بيان حقيقة ومصير الطغاة، صفات الله تعالى وعظمته، وغيرها.
وهي آيات عديدة معظمها وردت في السور المكيّة، نحاول حصرها بتسع نقاط، مع تفسير كل منها بحسب ما ورد في مجموعة (في ظلال القرآن الكريم) و(التصوير الفني في القرآن) لسيّد قطب:
1. "فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)" – القصص.
بيّن الله تعالى لرسوله الكريم مصير الطغاة بذكر مصير فرعون، الذي أغرقه، تماماً كما تحذف الحصاة أو يرمى الحجر في الماء. مصير كله ذل، فلا يبتئس من جورهم ومكائدهم.
2. "وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58)" – الفرقان.
في هذه الآية، أمر الله تعالى رسوله الكريم بالتوكّل عليه، وتم استخدام كلمة (الحيّ) في ذلك؛ لأن التوكل على الفاني من المخلوقات كأنه استناد لجدار ينهار لموتهم جميعاً، بينما الله تعالى هو خالد دائم لا يزول، وقوي لا يضعف مع الزمن.
3. "وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)" – الشعراء.
هذه الآية تفصّل أكثر صفات الله تعالى؛ ليدرك الرسول عظمته وقدرته، فهو يرى حركاته ويسمع دعواته كما في النصف الأول في الآية.
وبقوله (إنه هو السميع العليم) فيها إيناس للرسول الكريم بالرعاية والقرب والملاحظة.
4. "قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)" – الشعراء.
في ذكر قصة موسى عليه السلام بيان للرسول الكريم – صلى الله عليه وسلّم – مدى حضور وقرب الله لعباده ورسله بقوله: (إنا مستمعون)، رسمها الله تعالى بصورة الاستماع كونها أشد درجات الحضور والانتباه، وكناية عن دقة الرعاية وحضور السند، كما فيها قوة وحماية ورعاية وأمان، وصحبة النصر والتأييد.
5. "إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)" – الشعراء.
في عناد الظالمين والكفرة عن الاستماع والاستجابة لدعوة الحق، بيّن الله تعالى لرسوله أنه ليس ببعيد عن قدرته من إنزال آية من السماء بحيث لا تتركهم إلا وهم مؤمنين مستسلمين، وبشكل صوّر خضوعهم وأعناقهم ملوية محنية، فيبقون على هذه الحال من روع الدليل على دين الحق. فما عليه إلا البلاغ وليس جَبْل كافة الناس على الهدى.
6. "قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)" – الشعراء.
في بيان لمدى الاستخفاف بالطغاة وبتفاهة تهديدهم، نجد استصغار المؤمنين الصادقين لكل فيما في هذه الدنيا من مكائد ومصائب، فهمهم فقط أن يغفر الله لهم، تماماً كما حصل مع سحرة فرعون عندما ظهر لهم الحق، فلم يأبهوا بتهديد فرعون في قطع أوصالهم وفي صلبهم.
وفي ذلك درس للرسول وللمؤمنين ممن معه من أهل مكة التي تعرضت للأذى من المشركين.
7. "فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)" – الشعراء.
يظهر في بداية هذه الآية صورة سريعة لمصير التكذيب برسالات الله، وقدّ فصّل سيّد قطب في كتابه (التصوير الفني في القرآن) العديد من هذه الصور السمعية والبصرية التي تميّزت بها الآيات الكريمة لإيقاع يزلزل النفوس. فمثلاً، في هذا المشهد (فكذبوه فأهلكناهم)، ذكر سيد قطب أن من ضمن آفاق التناسق الفني هو مدة عرض المشهد. وهنا نرى أن المشهد كان سريعاً يكاد يخطف البصر لسرعته، وهذه الصفة تأتي دوماً عند وصف الحياة الدنيا لتوضيح مدى قصرها. وجاءت هنا لبيان سرعة عذاب الله للطغاة الذي أتى مباشرة بعد تكذيبهم.
8. "فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)" – الشعراء.
في صورة أخرى لسرعة عذاب الله، وقدرته على تغيير أحوال البشر، وصفت هذه الآية حال قوم صالح. فبعد أن كانوا آمنين متنعمين لا يؤمنون بتغيير الحال، نجد في قوله تعالى (فأخذهم العذاب) التعجيل بما حصل لهم، وهنا صورة سريعة لا تذكر حتى نوع العذاب، وذلك للمسارعة والتعجيل، فالغرض من هذه القصة هي التسرية عن الرسول الكريم وأن المكذبين لهم موعد لن يخلفوه.
9. "إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)" – القصص.
يبيّن الله تعالى لرسوله الكريم أنه بعد أن فرض عليه الدعوة، لن يتركه للمشركين ليخرجوه من بلده، فهو سيعود فاتحاً منتصراً إليها. ونزلت هذه الآية على الرسول عندما كان معه قلة من المؤمنين في مكة، والمشركون من حوله يكيدون له كافة المكائد؛ من هجر وقطع وتعذيب وإهانة وإشاعات ومحاولة للقتل، فهرب منها إلى المدينة مطارداً، ولكن كان مطمئناً بأن وعد الله له بالنصر آتٍ لا محالة.
وهذا وعد الله لكل من يسلك طريق الحق ويصبر في الثبات عليه، فمهما يتعرض للمكائد والتنكيل، سيأتيه نصر الله لا محالة، هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.