في معظم المجتمعات، خصوصاً الشرقية منها، ترتبط الموسيقى بالشياطين. في السودان ومصر استخدمت الآلات الموسيقية في عصور سابقة لاستخراج الأرواح الشريرة كالظار1، المعروف لسكان الوسط انتهاء بالطبول الإفريقية عند الكجور2 في جبال النوبة والجنوب.
وتسري رواية تاريخية في شمال البلاد أن مجانين القرى كان يربطون وتضرب لهم موسيقى "الكتلوك"3 موسيقى العرضة المعروفة ويكون ذلك علاجاً لهم، فمن فك رباطه فقط عولج وخرجت شياطينه -كما يعتقد البعض- ومن لم يستطع سقط ميتاً.
نفس إيقاع الموسيقى التي كان يعالج بها تضرب الآن في حفلات الزواج، ويعتقد معظم الناس أن ما يعرف بالهاشمية هو مجرد شيطان يتلبس الشخص فيهيج غير محس بمن حوله ولا بضرب السوط على ظهره العاري في مناسبات بعض القبائل في السودان.
وما يعرف "بالحضرة" أيضاً لا ينفصل عن "الهاشمية"، فموسيقى (النوبة) الصوفية أيضاً تصيب بعض الدراويش بالحضرة، فيسقط مردداً كلمات غير مفهومة يقال لها "سريانية"، اللغة الأم للعربية وتنسب بعض كلمات القرآن لها. لكن لم يتكبد أي شخص من المتصوفة أن يعرف هل ما يقال فعلاً لغة سريانية حقة أم مجرد طلاسم. الموضوع ليس موضع خلاف في الشرق فقط، بل في الغرب أيضاً، فمثلاً يعتبر معظم الغربيين أن موسيقى الهيفي الميتال والروك هي موسيقى لعبدة الشيطان وعبدة النار، وظهور ما يعرف بالبلاك ميتال والوايت ميتال كموسيقى معادية للأديان، لكن الكنيسة نفسها استخدمت موسيقى، فبعد انتهاء عصر اضطهاد المسيحيين كون القس قيغروكي أول "كورس" لإنشاد التراتيل، وفي بداية المسيحية كانت الكنائس تنشد تراتيل من المزامير، ثم صارت لكل كنيسة موسيقاها الخاصة كترتيلة المجدلة الكبرى4 وهللويا المعروفة.
"الإله هو مجرد قوانين فيزياء"
عند الجمهوريين5 -طائفة سنية- اعتقاد يعرف بموسيقى الكون يسمعها الإنسان الكامل الذي اعتلى كل الدرجات.
وهي موسيقى ليست كالموسيقى العادية، فهي ليست مجرد صوت، بل صوتاً مفاهيمياً يوصلك لقيم الحياة العليا.
ويسمع كل الأصوات الاعتيادية وغير الاعتيادية بما فيها دبيب النمل.
الإله قوانين فيزياء مقولة لعالم فيزيائي لا ديني، أجد تلك العبارة إيمانية أكثر من أن تكون من قول لا ديني، فالأشعريين6 -طائفة سنية- يختلفون في نظرتهم للكون والإله عن باقي الطوائف والمذاهب الإسلامية، فليس عندهم تجسيد للذات العليا، وقد تكون داخلك! وأن كل ما يحدث في الكون هو مجرد تراتيل إلهية، وقد تكون الموسيقى كتاباً إلهياً منزلاً! ذلك يرجعنا لسؤالنا هل الموسيقى مجرد صوت مدوزن أو معضلة فلسفية عميقة نعجز عن تفسيرها؟ وهل يخافها الأصوليون لأنهم لا يفهمونها؟ هل كل الأصوات موسيقى؟ وما الفرق بين موسيقى الإيقاع والآلات الوترية وغيرها بالنسبة للروحانيات؟
على العموم السؤال الحقيقي هل استغلت الموسيقى من قبل الأديان أم استغلتِ الموسيقى الأديان، فمثلاً تجد الأحزاب السياسية تصنع فنانيها المخلصين، الذين تبث عن طريقهم رسائلها السياسية. ونجد أيضاً بعض الموسيقيين أضافت لهم انتماءاتهم الحزبية والفلسفية أبعاداً أخرى، كانوا يمكن ألا يُعرفوا إلا إذا كانوا ينتمون لهذا الحزب أو تلك الطائفة، ذلك يرجعنا أيضاً لمعتقد الـ"راستفاري"7، لأنه معتقد، أو دعونا نقول هو مذهب فكري يرتبط بصورة كبيرة بموسيقى الريغي، ولكن الحقيقة التاريخية أن الراستا عبارة عن مجموعة كبيرة من المفكرين والأدباء الذين انضم لهم بوب مارلي لاحقاً، وأضاف إليهم وأضافوا له… حتى إننا نجد أن إحدى أشهر أغاني الريغي كانت خطاباً للملك هيلاسلاسي- أغنية الحرب war.
الموسيقى هي تراتيل الكون
النشوة التي توصلك لها موسيقى النوبة يمكن أن تصل أيضاً لأحد معجبي الروك آند رول في أميركا، أو عازف موسيقى الريغي في إثيوبيا.
وقد تصيب الحضرة شخصاً وثنياً أو مسيحياً دون فهمه للكلمات التي تقال في الذكر، فقط تصيبه بفعل ضرب طبل النوبة المنتظم. مثال "اكلي اوفتي" وهو ملحن كنسي خطفه المسلمون وجاؤوا به لإسطنبول، فصار يعزف موسيقى عربية بكلمات من التوراة والزبور والقرآن، دون أن يكتشف، عرفت الحانة فيما بعد "بموسيقى الإله الواحد".
ولكن ما سر استخدام التراتيل في الكنائس أو تلحين تراتيل اليهود في دور العبادة، ما سر تلحين الأذان عند بلال، ولماذا اختير أشجاهم صوتاً حتى الآن، ولماذا لحن سكان حضارة ما وراء النهر "الفيدا" الأربعة، ولماذا كان تقبل الهندوس للموسيقى أكثر من غيرهم، ولماذا ارتبطت المعتقدات الإفريقية والأميركية الجنوبية الوثنية بالموسيقى برباط قوي، أكثر من الديانات السماوية؟
هل الدين يعتمد على الموسيقى بشكل كبير، وإلى أي حدٍّ، وإن كانت تلك حقيقة إذن لماذا "تشيطن" الموسيقى عند السلفيين وغيرهم من الطوائف في بعض الديانات والطوائف الراديكالية؟
الهوامش
1- الظار: هو عبارة عن غناء ورقص لاستخراج الشياطين، يكثر في وسط السودان ومصر
2- الكجور: هي طائفة وثنية في جبال النوبة، تتركز حول الكجور وهو الشيخ الذي يخرج الشياطين ويطلب المطر.
3- الكتلوك: إيقاع سوداني يعرف بالعرضة، وهي عبارة عن ضربات على طبل النحاس الشعبي.
4- المجدلة الكبرى: أو ما يعرف بالمجدلية هي ترانيم تبتدئ "بالمجد لله في الأعالي".
5- الجمهوريون: هي مجموعة سنية سودانية يعتبر مفكرها الأستاذ محمود محمد طه، ظهرت في سبعينات القرن الماضي.
6- الأشعرية: هي طائفة سنية تختلف عن الأئمة الأربعة في الكثير من تفسيرات الكون، يعتبرها البعض خارجة عن الدين الإسلامي.
7- راستافاري: هي جماعة عقائدية اتخذت من إثيوبيا أرضاً لها تقتبس اسمها من الملك هيلاسلاسي، الذي كان اسمه راستافاري، أي الأمير تافاري، قبل أن يتولى الحكم في إثيوبيا ويحول اسمه لهيلاسلاسي أي الثالوث المقدس.
8- هيفي ميتال: لون من ألوان موسيقى الروك تطور في سبعينات القرن العشرين من البلوز والهارد الروك. يمتاز الميتال بقوة الموسيقى وحريتها من القيود، وتمتاز أيضاً بصوت الغيتار القوي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.