أن تتعمَّق جراح المستحيل فيك، فتولد لك عدمية.
تتصدى لها، تضمها إليك، تصفعك، تبتعد عنك مسافة، تنظر إليك بعينين واسعتين دامعتين!
من أحق بالبكاء والصياح والنواح؟
تتقدم بخطوات رصينة تجاه جسدي الهزيل تتفحص خربشات الدهر البادية على وجهي، تبتسم والدمع بعينيها!
أضمها بقوةٍ إلى صدري الجريح، تنفلت مرة أخرى!
ما جدوى وصف المكان لكم!
لكم الاختيار بين ليلٍ بئيس وصباح ماكر، أما أنا فسأختار لحظة الشفق، ومكاناً سأجعله قصياً يتوسط رقعة شرق الأرض ومغربها..
آه كم يبدو هذا دراماتيكياً!
عدميتي وسط هذا الكم الهائل من السحر تبدو خرافية الجمال. لم تتحدث، لم تنطق، وبنات أفكاري تفاقم سرياليتها اللعينة أمام السكوت.
إيماءاتها إباحية سليطة، تعبث بآخر ذرة حياء عابثة ما زلت أحتفظ بها!
شردت في محياها فسقطت في جزء من الواقع ما زال طائشاً في الذاكرة!
أستاذ الفلسفة العصبي يقول فاقداً السيطرة على نفسه إبان شرح الدرس: نهيليزم نهيليزيم نهيليزم…
فيسقط مغشياً عليه في صورة مهيبة تضمنت فيها كل معاني الجمال، وأتذكر أنني قد بدوت أكثر خبثاً مما أبدو عليه حين لم أرصد عليَّ بوادر التأثر، في حين لم أنزل رفقة الآخرين من زملائي في الصف، الذين بانت على محيَّاهم بإفراط علامات العاطفة والتأثر… كان يبدو لي أنه من الحكمة أن ألزم مكاني في آخر الصف وأغتنم فرصة الاستماع إلى باخ، وأن أميل بجسدي وأضع ساعدي أعلى حافة الكرسي، سماعات الأذن تعمل بتفانٍ بنقل النوطات بشكل صاخب أكثر من المعتاد!
أستاذي الذي كان يحلم بمزاولة مهنة التدريس يوماً ما، ولما كان له ما أراد ثار، فبدأ يحلم بشيء لا يعرفه إلا هو ذاته، كان يجيد سرقة النصوص ونسبتها إليه بشكل فني محكم. رغم هذا فطريقته التقليدية في إلقاء درس الحداثة كانت تستهويني.
مات أستاذي محققاً بذلك آماله العدمية.
ما زالت تحدق في وجوم، تمتمت لها والضعف والوهن يسريان مجرى الدم: هل اصطفيتني؟
شيء بملامحها قد تحرك بسرعة، صمت يوجع الذات والأرض والنجوم، يوجع أذني الناموس الأعظم.
خذيني إليك أو اتركيني، مدّي جسور طبيعتي الأولى إليّ، رديني إلى عهدي واندثري.
تومئ بيديها وقدماها تتراقصان، تجحد بعينيها، تميل وتتراقص، ثم تدور تدور كدرويش لا دين له ولا ملة. ومع كل رقصة تقوم بها تزيد من حدة الدوار، أسقط أرضاً!
أتتذكرون أستاذ الفلسفة؟ نعم قد جسَّدت نفس لوحة سقوطه أرضاً!
إلا أنه قد مات منهياً بذلك أوجاعه السرمدية، وأنا ما زلت هناك بعيداً في لحظة الشفق، في مكان قصيٍّ أوجدته بنفسي، لا طلبة حولي، ولا مهنة لي، لا سرقة نصوص، ولا حتى ذلك الشخص في آخر الصف بسماعات الأذن آخر الصف عابث ينظر لي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.