سمراء
تضطرب بشدة كلما سمعت صوت القطار اضطراباً يتحول لفزع شديد، صوته يرتبط بحادثة وفاة طفلها الأول، ويزداد الوجل يوماً بعد يوم، خوف كامن بالأعماق، الوجل من توقّع الحوادث القادمة، تراكم المآسي والإحن رسّخ في أعماقها أن القادم أسوأ ويحمل في جعبته الكثير من الأحزان.
كانت سمراء فارعة الطول، تميزت بجمال هادئ وعيون واسعة، كانت محل حسد قريناتها، لمحات قليلة من السعادة، مع زواج لم يستمر طويلاً، التي انهارت بوفاته وظلت عشرات السنين بعد وفاته تتذكره، كان دنياها الصغيرة، أنجبت سبعة من الأبناء والبنات، توفي خمسة منهم واحداً بعد الآخر، وتبقى اثنان هما كل ما خرجت به من الدنيا.
رافقها الموت طيلة حياتها، فعاشت تخشى على ولدَيها منه، فحاصرتهما.. صنعت لهما دنيا خاصة، حياة أشبه بمثلث حديدي هي قاعدته الأصلية وولداها ضلعاه، سنوات طالت أو قصرت، فجأة انهار المثلث وانكسرت القاعدة وتفرّق الضلعان، وأصبحا خطَّين متوازيين.
*****
الزفير
جلسنا جميعاً في المقهى الصغير وتبادلنا السلام، وبينما النادل يُسرع لتلبية طلبات الزبائن، قام أحدنا وقد عهدنا فيه حكمة صافية ورزانة في المنطق وعقلاً لا يناله الهوى والجموح، هبّ واقفاً من مقعده وجال ببصره بيننا وحولنا ثم أخذ نفساً عميقاً حتى كاد يمتص الهواء النقي من حولنا، ثم بخل بزفيره على الكون، فكتم نفسه حتى ازرقَّ وجهه وغارت عيناه وسقط من فوره جثة هامدة على كرسيه.
*****
البحث عن القمر
انطلقت بصحبة صديق بحثاً عن القمر، فقد شاع خبر عن اقتراب القمر من طرف المدينة البعيد قبيل الطريق الدائري بمنطقة خلاء بعيدة عن العمران، وقيل إنه يهبط ليلاً ليلهو مع الأطفال، فذهبنا معاً وقطعنا مسافة كبيرة وكلما أجهدنا التعب سمعنا صياح الأطفال ولهوهم من بعيد ورأينا ضياء يتلألأ ويفترش الأرض من كل جانب، فنسرع الخطى وصدورنا مفعمة بأمل، لكننا سرنا مسافة كبيرة جداً حتى أدركنا التعب فتوقفنا، فإذا بنا لم نبرح مكاننا.
*****
مشوار هام
هاتفني صديق يرجوني أن أشاركه مشواراً هاماً فوافقته مضطراً، وقطعنا مسافة كبيرة سيراً على الأقدام حتى وصلنا لمنطقة تغرق في ظلام دامس.
توقف عن سيره ثم اعتذر عن إكمال الطريق لبعض مشاغل ضرورية وتركني ومضى.
*****
جدران الروح
بينما كنت أتصفح عناوين الجريدة وأرشف فنجان قهوتي على مهل مستمتعاً بمرارتها الشديدة، شارداً في ملكوت صنعته على عيني يعزلني عن الجميع آنَس له وبه.
رأيته يُقبل من بعيد، لم يشغلني كثيراً أن يكون راجلاً أو راكباً، لكن برؤيته توقف زمني عن الحركة وتباطأ عودةً للخلف، فهيَّجت رؤيته ذكريات كثيرة، فعزمت على النهوض للترحيب به، لكن أبى عقلي أن يطاوعني وعنّفني قائلاً: ويحك! مَن يتجاهلك رغم حضورك غير جدير بأن تراه إلاّ طيفاً عابراً، فالزَم جدران روحك تسلم.
*****
زيارة
ذهبت لعيادة صديق قديم لم أرَه منذ سنوات، وقد أخبرني أحدهم بمرضه الشديد فآلمني الفراق وعزمت على زيارته.
قرعت الباب برفق لعلمي بتوتر يصيب المرضى يجعلهم لا يطيقون الصخب والضوضاء، مرت ثوانٍ اقتربت من دقيقة كاملة، وأنا بالباب أرجو لقاء أتحسّب له وأخشى مفاجآت فيهتز فؤادي بشدة.
حتى سمعت صوت سعال وأقدام تزحف ببطء، ثم فُتح الباب مواربة ونظر أحدهم إليَّ مستفسراً، نظرت إليه فوجدت عجوزاً لعله تجاوز الثمانين بقليل، تلمع عيناه ببريق غريب ويسعل وكأنما في النزع الأخير.
وقفت أمامه والحيرة تغمرني من رأسي حتى قدمي، ثم سألته متردداً بعد فترة عن الصديق المريض.
نظر إليَّ العجوز نظرة نفذت إلى عظامي، بشعرت بألم يعتصرني، وقال بصوت أجوف: بُنيّ أنا أقطن هذا المنزل منذ أن وعيت على الدنيا ولم أسمع بصديقك هذا، وعلى قدر علمي لا يوجد أحد بالشارع بهذا الاسم، ودخل وأغلق الباب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.