الاعتكاف في المسجد عبادة جليلة، وواحة ظليلة، تجلب صفاء الروح، ونقاء القلب، وهو فرصة عظيمة للخلوة مع الحق سبحانه، والانقطاع عن الخلق، وطرد الصوارف عن تحصيل ثواب الآخرة، وتجديد العهد مع رب العالمين.
وقد هالني في عصرنا هذا تخوّف بعضهم منه، واجتهادهم في محاولة صدّ الناس عن سُنة شريفة وبذرائع متهافتة، وحجج ساقطة، وتذكرت على الفور قول الإمام الزهري (رحمه الله): "عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكاف؛ مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل".
اعتكاف السُنّة:
الاعتكاف -عموماً- هو لزوم المسجد بنية مخصوصة، وهي التقرب إلى الله تبارك وتعالى، أما اعتكاف السُّنة، فهو اعتكاف الليالي العشر الأواخر من رمضان، لحديث عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبىّ -صلي الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتي توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده" (رواه البخاري رقم 2027، ومسلم رقم 1171).
فانظر إذاً كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الاعتكاف، مع تزاحم مهامه، وكثرة أعبائه وهو قائد الدولة الإسلامية، والمسؤول الأول فيها؟ ولم يتذرع بضيق وقته، وقلة فراغه، كما يفعل الكثيرون الذين عطلوا فقه الأولويات، فجعلوا الذهاب للمصيف عملاً واجباً يستحق أن تُفرّغ له الأوقات، وتحشد له الطاقات، في الوقت الذي أماتوا فيه سنة الاعتكاف تقريباً، ولم يلتفتوا -بسبب تلبيس إبليس- لهذه المفارقة العجيبة!
وأما من شرح الله صدره لإحياء هذه السنة المباركة، فإني -بإذن الله تعالى- أذكر له بعض أحكام الاعتكاف وفوائده.
الاعتكاف العام:
الاعتكاف العام ليس له وقت محدد، فهو جائز في كل وقت، وإن لم يُشترط له الصوم -وهو الصحيح- قالوا: أقله ما يُطلق عليه اسم لُبث، ولا يشترط له القعود، وقيل: يكفي المرور مع النية، كوقوف عرفة، فقد روي عبد الرزاق -بسند صحيح- عن يعلى بن أمية الصحابي: "إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلّا لأعتكف" (فتح الباري 4/319)
ويرى الأحناف أن أقل مدة للاعتكاف يوم كامل، ويرى المالكية أن أقله يوم وليلة؛ لأنهم جعلوا الصوم شرطاً في صحته (انظر: نيل الأوطار 4/ 317).
وقد جاء في البخاري عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؛ فقال: أوف بنذرك"، ويستفاد من هذا الحديث أن المكوث في المسجد ليلة يصح تسميته بالاعتكاف.
وعند أكثر الفقهاء أن المسلم لو دخل المسجد وجلس ينتظر الصلاة، ونوى الاعتكاف تقرباً إلى الله عز وجل صحّ اعتكافه؛ لأنهم لم يشترطوا الصوم إلّا في الاعتكاف المنذور، وبعضهم لم يشترطه مطلقاً.
بداية الاعتكاف ونهايته:
من نوى اعتكاف السُّنة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورغبة في المثوبة، فالصحيح عند جمهور الفقهاء أن الاعتكاف يبدأ من ليلة الحادي والعشرين، أي إن المعتكف يدخل المسجد قبل غروب شمس اليوم العشرين، ويخرج بعد غروب شمس آخر يوم من الشهر عند الشافعي وأبي حنيفة، وقال مالك وأحمد: إن خرج بعد غروب الشمس أجزأه، والمستحب أن يبقي في المسجد إلي أن يخرج لصلاة العيد.
والحق أن الأمر فيه سعة، وعلى المعتكف أن يرى الأنفع له فيفعله، فقد يكون له أهل أو ولد، فيستحب له القيام علي أمرهم ليلة العيد، وإدخال السرور عليهم، وخاصة أن الأئمة الأربعة اتفقوا على أنه لو خرج بعد غروب الشمس أجزأه (انظر: فقه السنة 1/403).
والاعتكاف للرجال والنساء لا يصح إلا في المسجد؛ لقوله تعالى: "وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ" (البقرة:187)، وعموم لفظ "المساجد" ينفي أن يكون معنى حديث: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" -إن صحّ لنفي الصحة؛ بل هو على الراجح من كلام العلماء- لنفي الكمال، فالاعتكاف يصحُّ في كل مسجد تُقام فيه الجمعة؛ حتى لا يضطر المعتكف إلى الخروج لأدائها في مسجد آخر، ولا يجوز تقييد هذه السُّنة بتخصيص بعض المساجد دون بعض.
كيف يقضي المعتكف وقته؟
بدهي أن الاعتكاف ليس مجرد خلوة علاجية، يهدئ فيها المعتكف من روعه، ويتخفف من ضغوط الحياة، ويقلل من انفعالاته الضارة، كما يرى بعض الأطباء؛ بل هو فوق ذلك انشغالٌ وأُنسٌ بالله عز وجل، ولذا فينبغي للمعتكف أن يكون اعتكافه بالروح قبل الجسد، أي أن يكون مقبلاً على الله بالكلية.
ولذا قال العلماء: يستحب له أن يُكثر من النوافل، وأن يشغل نفسه بالصلاة وتلاوة القرآن والاستغفار والدعاء والذكر، ويدخل في هذا الباب أيضاً مدارسة العلم النافع، وقراءة سِير الصالحين، ويستحب له أن يتخذ خباء، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لينعزل عن الناس، إن أمكن ذلك، وإلّا فلا يُشترط؛ ويكره له ألا يشغل نفسه بما لا يعنيه، أو بكثرة الكلام مع غيره؛ كما يفعل بعض الذين يظنون أن الاعتكاف فرصة للانفراد بالأصدقاء والأحباب!
ويباح له أن يرجّل شعره، ويحلق رأسه، ويقلّم أظفاره، وينظف بدنه، ويتطيب بالطيب، وأن يأكل ويشرب في المسجد -مع الحفاظ على صيانته ونظافته- والاغتسال من الجنابة، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتكف يدني رأسه إليّ فأرجّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" (متفق عليه).
وبناء على هذا الحديث، فإنه يباح للمعتكف أن يخرج لإحضار الطعام والشراب، وأن يخرج للحاجة التي لا بدّ له منها. ويباح له أيضاً أن يعقد العقود الجائزة في المسجد، كعقد النكاح، وعقد البيع والشراء، وهو كلام الإيجاب والقبول من غير نقل الأمتعة والسلع إلى المسجد (انظر: بدائع الصنائع 2/176).
ويباح له أن يخرج لتوديع أهله إذا زاروه في معتكفه، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع زوجه صفية (رواه الشيخان).
ويبطل الاعتكاف: بالخروج لغير حاجة عمداً وإن قلّ، وبالجنون والسُّكْر والحيض والنفاس والجماع لقوله تعالى: "وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ" (البقرة:187)، أما القُبلة واللمس بشهوة، فيفسد بهما الاعتكاف عند مالك، وفي رواية عند الشافعي، وقال أحمد وأبو حنيفة: "لا يفسد اعتكافه إلاّ أن ينزل، مع ارتكابه للحرام".
وأما اللمس بلا شهوة فلا بأس به، فقد مرّ بنا أن عائشة -رضي الله عنها- كانت ترجّل شعر النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف.
اعتكاف الموظفين:
جمهور العلماء على أن المعتكف لا يجوز له أن يتاجر ولا أن يخيط، ولا أن يتخذ حرفةً أو صنعةً في المسجد، فقد روى المروزي قال: "سألت أبا عبد الله (أي الإمام أحمد بن حنبل) عن المعتكف: ترى له أن يخيط؟ قال: لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يخيط"" (انظر: المغني لابن قدامة 4/311).
ولكن السؤال الذي يثور اليوم: إذا كان نهي الفقهاء منصبّاً على الحرفة أو الصنعة في المسجد، فما الحكم لو خرج من المسجد ليعمل في أمر ضروري له، لم يستطع تركه، ثم عاد ثانية إلى المسجد، دون أن يعرّج على البيت؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال الملحّ في زماننا هذا، سنجد أن الفقهاء اختلفوا هل يخرج المعتكف من المسجد أولا؟
بسبب نصّ حديث عائشة المتقدم: "وكان لا يخرج إلا لحاجة الإنسان"، وقد فسّرها بعضهم بالغائط والبول. ولكن النصّ أعم من ذلك التفسير، قال الشيرازي: "إن تعيّن عليه (أي المعتكف) أداء شهادةٍ لزمه الخروج لأدائها؛ لأنه تعين لحق آدمي، فقُدّم على الاعتكاف، وهل يبطل اعتكافه بذلك؟ يُنظر فيه: إن كان يعيّن عليه تحمُّلها لم يبطل؛ لأنه مضطر إلى الخروج وإلى سببه، وإن لم يتعين عليه تحملها؛ فقد روى المازني أنه قال: "يبطل الاعتكاف" (المجموع للنووي 6/502). وقد أجاز الشافعي خروج المؤذن من المسجد إلى منارةٍ خارجه ليؤذن فيها (المجموع 6/496).
أما الأحناف، فقد نقل ابن عابدين (في رد المحتار 2/493) أن "الصاحبين (أبا يوسف ومحمداً) يريان جواز خروج المعتكف إذا كان أقل من نصف يوم لحاجة ولغير حاجة". ولكن حديث عائشة السابق ينصّ علي عدم جواز الخروج إلّا للحاجة، ولذا فإن ما نرجحه جواز خروج المعتكف لوظيفته بشروط ثلاثة:
أولها: أن يكون عمله ضروريّاً لا يمكن له الاستغناء عنه.
وثانيها: ألا يستغرق عمله اليوم كله؛ حتى لا يضيع المقصود من الاعتكاف.
والشرط الأخير: أن يعود بعد العمل مباشرة إلى معتكفه؛ لأن الضرورة تخص عمله لا سواه.
وإذا كان في المسألة خلاف، فالأولى القول بالأيسر؛ حتى لا نحرم قطاعاً كبيراً من المسلمين من إحياء هذه السنة العظيمة، وخاصة أن نص حديث عائشة يسمح بهذا القول.
فوائد الاعتكاف:
يصعب على المرء أن يحصر الفوائد المرجوة من هذه العبادة الجليلة، ولكننا سنقتطف -بتصرف- بعض اللطائف التي أشار إليها الإمام الغزالي في الإحياء، ومنها:
1- أن المعتكف زائر الله، "وحق على المزور أن يكرم زائره" (صححه الهيثمي في مجموع الزوائد 2/ 31).
2- أنه جعل المسجد بيته، وفي الحديث عن أبي الدرداء: "إن الله -عز وجل- ضمِن لمن كانت المساجد بيته؛ الأمن، والجواز على الصراط يوم القيامة" (إسناده حسن، كما في مجمع الزوائد 2/22).
3- انتظاره للصلاة بعد الصلاة، فيكون عند انتظاره في صلاة، كما جاء في الحديث: "لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة هي تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة" (رواه البخاري برقم 659).
4- الاعتماد في تفريج الكروب على الله، ولزوم السر للفكر في الآخرة، ودفع الشواغل الصارفة بالاعتزال إلى المسجد هذه المدة، مع التجرد لذكر الله، فقد قال تعالى: "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى" (البقرة: 197).
5- أن يقصد إفادة العلم، بأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فالمسجد لا يخلو ممن يحتاج ذلك، وفي الحديث: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلّا أن يتعلم خيراً أو يعلمه، كان له كأجر حاج تامّاً حجته" (رواه الطبراني وصححه العراقي، والهيثمي كما في المجمع 1/125).
6- أن تصيبه خصلة من خصال ثمانٍ، أشار إليها الحسن بن علي -رضي الله عنه- بقوله: "من أدام الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى ثماني خصال آية محكمة، أو أخاً مستفاداً، أو رحمة منتظرة، أو علماً مستطرفاً، أو كلمة تدل على هدى، أو تصرفه عن ردى، أو ترك الذنوب خشية، أو حياءً".
وهكذا نجد الاعتكاف مدرسة تربوية كبرى، من حرمها فقد حُرم خيراً كثيراً، ربما لا يدركه في غيرها.
والله المستعان..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.