أشار لي والدي من داخل قاعة المحاكمة: ابقي خارجاً حتى تنتهي الجلسة، كان يرى في ملامحي ترقباً وقهراً من ذلك الرجل الذي يجلس إلى جانبه، والذي كان صهره لعشر سنوات، يجلس موجهاً أنظاره تجاه القاضي، منتظراً أن يأمره القاضي بحلف اليمين على كتاب الله.
ظللت أراقب ما يجري في الجلسة من وراء جدار، سمعت القاضي يخاطب ذلك الرجل، الذي ما زال يسمى تحت اسم الشرع والقانون زوجي: هل أنت مستعد لأن تحلف على المصحف الشريف بأنك لم تأخذ مصاغ زوجتك الذهبي… إلى آخره، فأجاب بثقة غريبة: نعم.
خاطبه القاضي مجدداً: "إنها يمين ليست سهلة، وخاصة أننا في شهر رمضان الفضيل"، فهز رأسه مؤكداً أنه يعلم ذلك!
ما زلت أكذب ما أرى، غير معقول! لقد طلب منه القاضي أن يمتثل أمامه ويردد اليمين، لقد وقف ووقف جميع من في القاعة، وأنا أقف خارجاً أراقب، إنه فعلاً يردد اليمين كذباً، وأبي يقف مشاهداً ملتزماً الصمت والهدوء، متمالكاً نفسه، والجميع كذلك.
بينما أنا أغيب عن كل ما حولي مركِّزة أنظاري على يد ذاك الرجل وهي تحط على كتاب الله، كنت أفكر حينها؛ ألم يقشعر جلد يده وهو يردد يميناً غموساً يغمسه في قاع جهنم يوم لا ينفع مال ولا بنون؟ أيا تُرى هو يفعل ذلك وهو مؤمن بالله؟ صائم مدرك حجم الذنب الذي يقع عليه؟ لا أعلم.
شعوران متضاربان كانا يمتلكانني في تلك اللحظة؛ شعور الصدمة أن الذي ائتمنته على نفسي سنوات طوالاً مستعد لفعل أي شيء ليخرج منتصراً من معركة الطلاق تلك، وشعور آخر بالرضا؛ لأن أبي رأى بأم عينيه ذلك الرجل الذي كان يدّعي الصلاح والخوف من الله وأنني أنا المرأة الناشز التي لا تطيعه.
رَآه وهو يردد اليمين كاذباً غير خجِل من نفسه، ليتضح لأبي عكس ما كان يظن، وليدرك أبي لماذا لا أريد العيش مع رجل من هذا النوع، لقد كان فعله هذا دعماً لموقفي أمام الجميع من هذا الرجل الذي كانوا يرددون على مسامعي في السابق أن ظله أفضل من ظل حائط!
إلا أنني لا أنكر أن الشعور الأقوى الذي كان يسيطر علي هو الصدمة، لقد تسارعت نبضات قلبي وابتعدت عن المكان قليلاً وبقي نقاش لا أعلمه بين تلك الجدران، لم أكن أرى أحداً من حولي على الرغم من ازدحام المحكمة، فما إن خرج مع محاميه ورأيته متجهاً للخارج حتى أمسكت بسترته وقلت له: لن يتركك الله في الدنيا أو الآخرة على يمينك الكاذبة هذه.
إلا أنني فوجئت بثقته الغريبة مجدداً ويكأنه لم يفعل شيئاً خطأً قط! قال لي حينها: "سأربّيكِ".. لم يعلم أنه ينتقم من نفسه، حيث هو الجاني وهو الجلاد على نفسه.
أصبت بانهيارٍحينها فخرج أبي مسرعاً وأمسك بيدي التي ترتجف وخرج بي من ذلك المكان الخانق. "لا تحزني يا ابنتي فسوف يتكفل الله بالباقي".
ليس صلب الموضوع تلك الجلسة وما حدث فيها، إنما ما وراءها من أشخاص وأحداث ومواقف، إنه لَمن الأسف الشديد أن يكتشف المرء أنه عاش مع شخص آخر سنوات طوالاً ليكتشف متأخراً أنه يتعايش مع إنسان غريب لا يمتنّ لأي شيء، وإن أي امرأة في مكاني ستكون ممتنة للحياة التي تضع كل شخص في مكانه الحقيقي ولو بعد حين، إلا أن ضربة قوية أفقدتني القدرة على الثقة بأي رجل آخر بعد ذلك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.