بين الأدب والتاريخ.. محاولة لفك الاشتباك

هل يستطيع الروائي رواية التاريخ ويبقى أميناً للحقيقة التاريخية؟ وهل يمكن أن تتناول الرواية شخصية تاريخية من دون أن تخرجها من تاريخيتها وتحولها إلى شخصية روائية مفارقة لتلك التاريخية؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/06 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/06 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش

ثمّة علاقة خاصة ما بين الأدب والتاريخ، فقد قيل: إن التاريخ هو الرواية التي حصلت، والرواية هي التاريخ الذي كان يمكن أن يحصل.

الرواية أبرز فنون الأدب؛ تعرض علينا الحياة التي تعطينا الرؤية، وهي كسائر الخطابات الحكائية ببنية لغوية سردية دالة تشكل عالماً ذا كينونة خاصة تتلون فيه الأمكنة والشخصيات والأحداث والحوارات، والرواية التاريخية شكل من أشكال الرواية الحديثة التي تعبر بشكل أكثر عن الواقع التاريخي ونقاط التحوّل لدى المجتمع والإنسان، من خلال إعادة سرد التاريخ وإعمال خيال الروائي في الأحداث، وعلاقة الرواية بالتاريخ علاقة جدلية قائمة، إذا ما نظرنا إلى البنية التاريخية خارج منطقة المدون من أحداث، والرواية فرصة للروائي، ليعيد سرد أحداث التاريخ من منظور آخر، ويسقط أحداثاً وقعت بالفعل على أحداث على وشك الوقوع؛ ليؤكد أن الأزمات التي نعيشها اليوم ما هي إلا وليدة أزمة ما في تاريخنا الممتد عبر المحن، ولا أجد تفسيراً للطفرة التي طالت الروايات التاريخية إلا بما نعيشه من أزمات وعنف وأحداث تتصاعد يوماً بعد آخر، فعلاقة الكاتب بالتاريخ ليست شيئاً خاصاً، إنها عنصر مهم من العناصر التي تؤلّف علاقته بكامل الواقع، ولا سيما المجتمع، فهل بإمكان الرواية إعادة كتابة التاريخ بعيداً عن تهويمات الخيال.

وهل يمكن كتابة رواية تاريخية بعيداً عن الخيال والتخييل؟ وكيف تنجح الرواية في كتابة أو إعادة كتابة التاريخ؟

الرواية التاريخية نوع من أنواع الفن الروائي يمتزج فيه التاريخ بالخيال، يستعين الروائي بالوثيقة أو الوقائع التاريخية ليعيد خلق بناء فني خيالي، تتحول فيه الوثيقة أو الواقعة إلى جزء لا يتجزأ من هذا الخيال، تهدف إلى تصوير عهد من العهود أو حدث من الأحداث بأسلوب روائي سائغ مبني على معطيات التاريخ، وذلك لما يحمله التاريخ من خيال وقدرة على إثارة ذهن ومشاعر القارئ، فمسألة التاريخ تمثل مشكلة للكاتب؛ لأنه يستند إلى أحداث واقعية حدثت في الماضي وهو يكتب نصاً متخيلاً، فكيف يحول الواقعي إلى متخيل روائي؟

كل روائي هو مؤرخ، هكذا يعتقد البعض، كون أن كل ما يسرده الروائي هو شاهد على حياة ما في زمن ما، لكن هناك مَن ينظر إلى الرواية التاريخية بمفهوم مختلف، فلا يوجد فهم محدد لما يجب أن تكون عليه الرواية التاريخية، فالبعض يحصرها في جانب التوثيق التاريخي أو التخييل التاريخي، أو الرواية ذات البعد التاريخي، كون العلاقة بين التاريخ والرواية تقوم على التكامل لا على التنافر والتضاد.

يعرّف جورج لوكاتش الرواية التاريخية بأنّها "عمل فنّي يتخذ من التاريخ مادة له، دون أن تنقل التاريخ بحرفيته، بقدر ما تصوّر رؤية الكاتب له وتوظيفه لهذه الرؤية للتعبير عن تجربة من تجاربه، أو موقف من مجتمعه يتخذ من التاريخ ذريعة له".

في المقاربة الروائية للتاريخ، نسأل: هل يستطيع الروائي رواية التاريخ ويبقى أميناً للحقيقة التاريخية؟ وهل يمكن أن تتناول الرواية شخصية تاريخية من دون أن تخرجها من تاريخيتها وتحولها إلى شخصية روائية مفارقة لتلك التاريخية؟

للإجابة عن السؤالين، علينا أن نفرق بين التاريخ كعلم والرواية كفن: فالتاريخ علم خاضع لآليات البحث العلمي التاريخي وتقنياته، بينما الرواية فن خاضع لمقتضيات الفن الروائي وتقنياته، وعليه فإنّ التاريخ للرواية ليس أكثر من مادة أولية تقوم بتشكيلها روائياً ما يجعل خيانة الحقيقة التاريخية شرطاً لتحقيق روائية الرواية.

فالمؤرخ أو الباحث في الدراسات التاريخية ليس ملزماً بأن "يحكي" وإنما صار مطالباً بأن "يفسّر" ما نسميه أحداث التاريخ وشخصياته.

ويستخدم أدواته البحثية وفق منهج علمي صارم يحاول استرداد موضوعه من ذمة الماضي؛ لكي يعيد قراءته لمصلحة الحاضر والمستقبل، فالمؤرخ لا يستطيع أن يبتدع حادثة تاريخية أو يختلق شخصيات، فالتاريخ علم يقوم على أسس ثابتة قوامها الإنسان والزمان والمكان، والتفاعل بين هذه العناصر هو الذي يصنع الحادثة التاريخية من ناحية، ذلك أن المؤرخ مطالب بالصدق العلمي.

أما الروائي، فهو أسير فنه؛ لأنه "يحكي" وليس عليه أن "يفسّر" ما يحكيه، ذلك أنه يتعامل مع حركة الإنسان في الكون باعتبارها مادة خام يشكلها كما يريد، وحسبما يسمح له خياله وقدرته الفنية، فيمكنه أن يقدم موضوعه التاريخي بشكل فني يلعب الخيال دوره فيه، كما ويمكنه أيضاً ابتداع شخصيات خيالية؛ لتقوم بدورها الفني إلى جانب الشخصيات التاريخية الحقيقية، كما يستطيع أن يختلق أحداثاً لا تؤثر في السياق التاريخي الذي اختاره موضوعاً لروايته لخدمة الأغراض الفنية للعمل الروائي.

وهذا هو الفرق بين "التاريخ" و"الرواية التاريخية" فالتاريخ يقدم لنا الماضي في صورة أكاديمية تناسب دارسي التاريخ، بينما الروائي يستطيع أن يقدم لنا التاريخ في صورة حية، المؤرخ يقدم لنا "جثة" التاريخ وهو يحاول تشريحها وفهمها، فإن الروائي هو الذي يجعل هذه الجثة تتحرك وتجري الدماء في عروقها في عمل فني يعيش بين الناس ويتفاعلون معه، ومع قراءة الرواية تشعر بأنك تعيش مع الشخصيات، تشاهد المدن والهضاب، والطرقات المزدحمة بالناس، تتذوّق طعم ولون الجمال.

وأخيراً، لا بد من التأكيد أن الرواية التاريخية ليست تاريخاً، ولا يمكن اعتبارها مصدراً تاريخياً للمعلومات التاريخية من قريب أو بعيد، وإنما هي لون أدبي وعمل فني يستلهم التاريخ ويتكئ عليه، ويكون التاريخ ركيزة من ركائزها، وإذا كنا نتفق على أن الرواية عمل أدبي له شروطه وأدواته وفنياته، فلا بد أن نعترف أن للروائي الحق في اختلاق الأحداث والشخصيات والأماكن؛ ليعطي عمله بعداً فنياً مقنعاً للقارئ، فالرواية التاريخية ليست تاريخاً، وإن كانت تستمد من التاريخ مادتها، وعليه فإن هؤلاء مقتنعون بأن الانتقادات التي توجه للأدباء المهتمين بالرواية التاريخية لا معنى لها.

في رواية "آلموت" لفلاديمير بارتول وهي من أجمل الروايات التاريخية، كونها تناولت موضوعاً تاريخياً صعباً يعد إلى يومنا هذا طلسماً ولغزاً محيراً، والتي تتناول حياة حسن الصباح مؤسس ما يعرف بالطائفة الإسماعيلية أو الحشاشين، في قلعة "آلموت/عش النسر" وهي حصن جبلي، تصور الرواية كيف حقق حسن الصباح حلمه في خلق جنته الأرضية، وجنده وأتباعه الذين لا يعصون له أمراً، ومملكته المنيعة المحصنة، التي أصبحت محجاً لأتباع طائفته الإسماعيلية.

واستطاع بجهوده وتخطيطه المحكم صنع المستحيل، وهزيمة الجيوش، واقتحام القصور بفدائييه للتخلص من خصومه وأعدائه، حتى شكل رعباً لجميع مخالفي الدعوة الإسماعيلية، ينتظر كل منهم أن يفاجئه خنجر مسموم يقضي عليه.

تركز الرواية على خطة الحسن في الإعداد والتحضير وخاصة للفدائيين والجواري، فهؤلاء لهم مدرسة لها برامجها ومناهجها ومدرسوها، التي يجب أن ينجح فيها الجميع بعد اختبارات شاقة ودقيقة، وأي مخالف أو مقصر مصيره الموت، فالغايات العظيمة تهون في سبيلها النفوس والأرواح والتضحيات.

الرواية طويلة، خلاصتها أن حسن الصباح أثبت صحة نظريته، وإن على نطاق ضيق، ولذا عندما أيقن من تحقق الحلم، وانتصار دعوته، تخلص من الحياة، فدعوته لم تعد بحاجة إليه، وربما هي إلى موته أحوج، لما يشكله موته من غموض وسحر ودهشة..

كما تناولت روايات أخرى بشكل أو بآخر شيخ الجبل حسن الصباح مثل رواية "سمرقند" لأمين معلوف، إن روايتي "آلموت" و"سمرقند" تقرآن كعمل أدبي فقط، ولا تحاكمان تاريخياً، ويؤخذ ما فيهما من تاريخ كأحداث سردية لغايات فنية، وللقارئ المهتم أن يرجع إلى المصادر التاريخية للتعرف إلى ما تثيره الرواية من أحداث، فقد تطابق أو تخالف الواقع، وقد تكون أحداثاً مختلقة من الأساس.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد