سؤال يتكرر كثيراً خلال شهر رمضان على الساحة الأوروبية، من الأجيال الجديدة لأولاد المسلمين في الغرب، الذين نشأوا في بيئة الأسئلة المفتوحة، والتي تمنطق كل شيء ولا تُسلِّم أو تستسلم قبل معرفة الحكمة أو السر وراء الأمر أو النهي.
كما يُطرح السؤال من غير المسلمين خلال شهر رمضان، حيث تطول ساعات الصيام صيفاً فتتراوح بين 17 و21 ساعة، فيسألون: كيف تتحملون هذه الساعات دون طعام أو شراب وتواصلون حياتكم الطبيعية؟ ولئن قبِلنا الامتناع عن الطعام فكيف تمتنعون عن شرب الماء، وكيف يأمر الإله الرحيم بما يشبه التعذيب، ويضر ببدن الإنسان؟
إن السؤال (لماذا نصوم؟) سؤال مشروع، والقرآن الكريم حافل بالتعليل والتقصيد وبيان الحكمة من فرائض الأحكام؛ فقد بين أن القصد الأكبر من الصيام تحقيق التقوى فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (سورة البقرة: 183)، وأن الذكر والاتصال بالله من أعظم مقاصد الصلاة فقال: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ" (سورة العنكبوت: 45)، وأن تطهير النفس من الشح مقصد الزكاة بقوله: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا" (سورة التوبة: 103)، وأن ذكر الله وشهود المنافع أهم مقاصد الحج فقال: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ" (سورة الحج: 28).
وليس في الإسلام شيء غير معقول المعنى، فالمعنى والحكمة موجودان، لكنهما قد يظهران لعالم ويخفيان على غيره، وخفاؤها لا يعني عدم وجودها.
وقد أدركتُ أن القصد من عدم التنصيص على الحكمة والقصد من التشريعات بصورة قاطعة حاسمة هو أن يستمر البحث وإعمال الفكر والنظر مع تتابع العصور والأزمنة، لتبقى الحكم والمقاصد حية منفتحة متجددة بتجدد الأزمنة، ومتعددة بتعدد الأنظار.
أدركت هذا المعنى عندما كنت أجعل الخطبة الأولى من شهر رمضان كل عام للحديث حول فلسفة الصوم ومقاصده، فكان يظهر لي في كل عام سر جديد للصيام أصل إليه بنفسي، أو أطالعه لأحد العلماء والمفكرين السابقين أو اللاحقين، حتى اجتمع لي 16 حكمة ومقصداً للصيام.
وقد طغى على فقهنا الموروث التركيز على صورة عبادة الصيام وتصحيحها شكلاً، على حساب بيان سرها ومعناها، حتى وصلت المفطرات عند بعض الفقهاء إلى 57 مفطراً، وقد وصف الدكتور محمد عمارة هذا الواقع الفقهي بقوله: "نحن أمام متصوفة بلا عقول، وأمام فقهاء بلا قلوب".
ينكر خلو الفقه من المعاني والمقاصد وجفافه بالتركيز على الصور والأحكام. وقد أحسنت المجامع الفقهية المعاصرة؛ إذ نحت عكس هذا المنحى فضيقت من دائرة المفطرات العصرية.
ولعل السابقين من فقهائنا ضيقوا في بيان أسرار العبادات؛ خوفاً عليها من الإضافة أو التغيير ورغبة في صيانتها من التحريف والتبديل؛ فإذا قلنا إن الصيام يهدف إلى رعاية الجسم صحياً لا يأتي من يقول سأحقق ذلك بالرياضة وتنظيم الغذاء ولا حاجة لي بالصيام! وهكذا.
لكن في زماننا وعالمنا المفتوح، صار التعليل وبيان الحكمة هما الحاميان للامتثال والأدعيان للانقياد، والأكملان في عرض الإسلام للعالمين، وهو المعنى الذي عناه ابن القيم حين قال عن تقصيد الأحكام: هو الفقه الحي الذي يدخل القلوب بلا استئذان.
لقد أصبح الجواب عن السؤال (لماذا؟) بالتعبدية وعدم المعقولية اليوم يعقّد الأمر ولا يحله، ولا يصون التدين والأحكام كما كان في زمن السابقين؛ بل يفتح الباب للتشكيك والتردد في قبول الأحكام.
وعلينا أن ننبه إلى أنه لا يصح عقلاً ولا يجوز شرعاً أن نؤخر الامتثال حتى تظهر لنا الحكمة، ولكن علينا أن نمتثل لأمر الله فنصوم ونتابع البحث والجواب على السؤال "لماذا نصوم؟"، فيكون الجواب ممهِّداً ومهيِّئاً لغير المسلم بقبول أحكام الإسلام ومنطقيتها، ويزيد المسلم انقياداً وامتثالاً وإذعاناً لأمر الله.
إن المسلمين لم يكونوا بحاجة في عصر من العصور إلى فلسفة الأحكام وتعليلها وتقصيدها مثلما هم بحاجة إليها اليوم، حيث التشكيك في المسلّمات، ورواج الأفكار التي لا يُتخيل أن يكون لها أنصار، فما كان صالحاً مقبولاً في أزمنة مضت لم يعد صالحاً اليوم.
لقد كان المسلمون الجدد الذين لهم اشتغال بالفلسفة أو التأمل أكثر وعياً من المسلمين بـ"الوراثة" في حديثهم وتأملاتهم حول الإسلام، وعبادة الصيام تحديداً، وسأذكر طرفاً من حديث بعضهم إن شاء الله تعالى.
إن الجواب عن السؤال "لماذا نصوم؟" مهم؛ لما يلي:
1. للمسلم الصائم الطائع؛ ليزداد إيماناً، "قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" (سورة البقرة: 260).
2. للمسلم المتشكك رغم صيامه، أو الممتنع عن الصيام لعدم منطقيته، هاتفني شاب في ألمانيا يستشيرني في أمر صديقه المسلم الذي قرر الامتناع عن الصيام هذا العام قائلاً: صمتُ أكثر من 20 رمضان وأنا غير مقتنع بمعقولية هذه العبادة أو فائدتها، وإنما صمتُ إرضاء لوالديَّ، وتحت ضغط المحيط الاجتماعي للأسرة.
3. لغير المسلم، سواء الملحد، أو المؤمن بدين آخر ويريد أن يفهم فلسفة الصيام وأبعاده غير التعبدية.
4. للفقيه والمجتهد؛ ليستبطن تلك المقاصد والحِكَم في اختياره واجتهاده وترجيحه الفقهي وتنزيله على الواقع المعيش.
ولا يعني ذلك أن الأجوبة التي سأقدمها على السؤال "لماذا نصوم؟"، هي أجوبة نهائية وقاطعة وحاسمة، ولكنها اجتهاد: منه ما هو تأملي، ومنه -وهو الأغلب- ورد في ثنايا حديث الفقهاء المتقدمين والمتأخرين، وليس القصد إحصاء الحِكم والمقاصد وحصرها وإنما فتح الباب للإضافة والضبط والإكمال كما قال ابن خلدون: "فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضوع العلم، وتنويع فصوله، وما يتكلم فيه، والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمُل".
بعد هذه المقدمة الممهدة، ننتقل للحديث حول حِكم الصيام ومقاصده وأسراره جواباً عن السؤال: "لماذا نصوم؟"، وذلك في المقال القادم إن شاء الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.