التحوُّل من الإنسان إلى الفرد

إن مرحلة التحول هذه لها أرضيتها وظرفها الواقعي، بعيداً عن التخيل والحلم، وتتمثل هذه الأرضية بحسب التجربة الأوروبية بالتحول في نوع العمل، من العمل الزراعي والخدمي إلى العمل الصناعي، وهو تحول ينتج عنه تلقائياً تحول من النمط الاجتماعي الريفي إلى النمط المديني

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/02 الساعة 08:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/02 الساعة 08:26 بتوقيت غرينتش

ارتقى الإنسان من كونه إنساناً عادياً سالباً في عصر ما قبل الحداثة إلى كونه فرداً وذاتاً حرة مستقلة، تحول إلى الإنسان الإيجابي، في مسيرة معقدة ودامية لا تقل من حيث الثمن عن مسيرة الإنسان الطويلة خلال آلاف السنين التي تحول فيها بحسب إخوان الصفا ودارون من كائن ما قبل إنسان إلى الكائن الإنسان.

لكن هذا ليس كل شيء في مسيرة الإنسان إلى المواطنة، فبعد هذه المرحلة وفي ظروف مواتية يمكن أن يرتقي الإنسان الإيجابي إلى أن يصبح إنساناً – فرداً ومن ثم في مرحلة أعلى ليتحول إلى الإنسان الفرد المواطن، متخلياً أيضاً، بحسب الظرف، وشيئاً فشيئاً عن الإنسان الفرد، ليحيا مع مواطنين آخرين، مرتبطين جميعاً بعهد قانوني أو عهد مدني تعارف على تسميته بـ "العقد الاجتماعي"، يضمن جوهرياً، وبشكل أساسي، جميع حقوقه، كما يضمن حقوق الجميع كمواطنين أو كشعب من المواطنين.
هنا يحل مفهوم جديد للشعب، مضمونه المواطنة والمساواة، بعيداً عن المفهوم التقليدي للشعب، القائم على الدم والعرق أو اللغة أو الثقافة أو التاريخ..

ما سبق هو ملخص لرؤية تطمح إلى مجتمع شرق عربي بالأخص مجتمع سوري يتأسس على ثلاثية الإنسان- الفرد- المواطن.
وفي العودة إلى المقطع السابق بتفصيل أو بتجسيد يمكن القول: أنا الإنسان س لا أتخيل ذاتي كمواطن إلا بعد أن أحقق استقلالي الشخصي كفرد حر أعتز بفرديتي. فأصبح الإنسان الفرد س، وبعد ذلك أنتقل إلى مستوى ثالث، أرقى من المستويين السابقين، فأصبح المواطن س.
هكذا فالفردية بما هي استقلال للذات الحرة الإنسانية عبر تحققها وتبلورها كذات حرة تخص صاحبها، هي مرحلة متقدمة في تاريخ الإنسان، حتمتها المدينة والعلاقات المدنية حيث تنتهي العلاقات القطعانية والجماعية القرابية، التي هي جوهر شتى أنواع الهويات القائمة على الخوف والتجمع لضمان البقاء.

لكن كيف يتحول الإنسان إلى فرد؟

هناك شرطان للتحول من الإنسان إلى الفرد، شرط موضوعي وشرط ذاتي.

أولاً الشرط الموضوعي:

إن مرحلة التحول هذه لها أرضيتها وظرفها الواقعي، بعيداً عن التخيل والحلم، وتتمثل هذه الأرضية بحسب التجربة الأوروبية بالتحول في نوع العمل، من العمل الزراعي والخدمي إلى العمل الصناعي، وهو تحول ينتج عنه تلقائياً تحول من النمط الاجتماعي الريفي إلى النمط المديني، وتحول من ثقافة الريف والزراعة إلى ثقافة المدينة والعمل الصناعي، حيث كل شيء محكوم ومنضبط بشدة، غير معهودة من قبل، في النمط الزراعي أو الخدمي.

تصبح الثقافة المدينية هي السائدة بدل الثقافة الزراعية البسيطة أو بدل الثقافة الخدمية المدينية البسيطة، المرتبطة تاريخياً بالدين، دون أن يعني هذا زوال الزراعة والمزارعين أو التجارة والخدمات والعاملين بها.

لا فردية دون تصنيع وصناعة، أو دون قوانين والتزام بالقوانين، الأمر الذي يتطلب سلطة رادعة لتطبيق القانون العام تتمثل بالقانون الجزائي، وسلطة إجبار وهي الشرطة والقضاء والسجن، لكن الأهم، في طريق الوصول إلى الفردية هو توفر العدالة. والعدالة لا بد لها من عقل صارم ونفس مستقيمة وهذه لا تتوفر إلا في نظام ثقافي تعليمي قوي وراق.

ثانياً الشرط الذاتي: (التخلي عن الهويات الجماعية الجزئية):

إن أول تحول جوهري في نفسية الإنسان، يحوله إلى إنسان فرد يتكون في المدينة، ونتيجة ثقافة العمل الصناعي والتزام القوانين المدينية الصارمة، وهو ما يفصل الإنسان عن ثقافة الريف الزراعية البسيطة، وكذلك يفصله عن ثقافة المدينة الصغيرة الخدمية التجارية، وبالتالي يفصله عن الدين الرسمي والأفكار الدينية الشعبية، دون أن يعني ذلك دعوته أو إجباره على تخليه عن الإيمان.

كل ما في الأمر أن الإنسان يتحول من الجماعة الدينية إلى الفردية الإيمانية أو الدينية، أي يبقى مؤمناً أو مسلماً، لكن بعيداً عن المسلمين كجماعة وليس عن الإسلام كدين، وسواء كان الأمر متعلقاً بالسني أو الشيعي، كذلك الحال بالنسبة لبقية الأفراد المؤمنين والمنتمين بحكم الولادة أو الإيمان العلوي أو الدرزي أو الكاثوليكي. كذلك الحال بالنسبة للإثنيات، فلا بد من الخروج من الجماعات والهويات العرقية والإثنية قبل الانتساب إلى هوية جامعة مثل المواطنة السورية، دون أن يعني ذلك تخلي العربي أو الكردي عن العروبة أو الكردية لكنه تخل عن العرب والكرد كجماعة، وتحول إلى العربي أو الكردي الفرد لذاته وليس للآخرين.

التحول من الفرد إلى المواطن: (المواطنة تنازل إرادي من الفرد الكامل):

نأتي إلى خاتمة المطاف وغاية التطور الصاعد الذي يبدأ بالإنسان، فالمواطنة تتويج للفردية، هنا يقدم الفرد بإرادته على التنازل عن شيء من فرديته من أجل ذاته ومن أجل الآخرين، ليصبح هو وهم شركاء. المواطنة تنازل من مجموع الأفراد عن نسبة أو جزء من فردياتهم لأجل شيء أعلى وأشمل وأرقى، وهو تطور ليس بالقديم، بل هو أيضاً من ثمار المدنية الصناعية والتقدم الاجتماعي النفسي للإنسان.

في عملية التحول من فرد -ذات حرة إلى فرد- مواطن تتم عملية معاكسة لعملية التحول من إنسان ملتصق بهوية جزئية أو إنسان فطري إلى إنسان فرد. هنا يتم الانتماء إلى هوية جماعية هي المواطنة الخالية من أي هوى جماعاتي أو جزئي، قومي أو ثقافي.

ربما كانت هوية المواطنة هي البديل عن هويات تنتقص منها أو تنازعها الوجود، والطريق إلى المواطنة طويل معبد بالألم، لكنه ألم التجربة، الذي يضيئنا من الداخل، فيولد وعي جمعي راق أشبه بوعي المشاعية من حيث الشكل وبالحس الصوفي الإلهي المجرد من حيث الجوهر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد