هل الحب يكفي؟!

كنت وما زلت أقهر كلما رأيت موقفاً لإنسان متجرد من حروف انتمائه... يقف بجبروت يأمر وينهى ويدفن إنسانيته تحت قدميه ثم يفتخر بفعله عند الفراغ منه، ليشمئز داخلي ويصيح مدوياً بصمت أكره الإنسانية التي جمعتني بكم!

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/30 الساعة 04:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/30 الساعة 04:44 بتوقيت غرينتش

يقولون إن الحب وحدَه مَن يسقي زهور الحياة؛ يزرع الأمل في الزوايا ويعطِّر ستائرها… ما إن يبذر في الطرقات حتى يتغير طعم الكون!

اعتقاد ارتشفته البشرية منذ الأزل، فصار عنوان العوالق في العوالم، وحدثاً أساسياً لقصص أبطالها أسروا المتابعين عبر الشاشات والصفحات.

لكن ماذا عن الرحمة؟! هل يسيَّد الحب أمامها في بناء العلاقات؟
يقول مصطفى محمود: "الرحمة أعمق من الحب وأصفى وأطهر، فيها الحب وفيها التضحية، وفيها إنكار الذات، وفيها التسامح، وفيها العطف، وفيها العفو، وفيها الكرم. وكلنا قادرون على الحبِّ بحُكم الجِبلَّة البشرية وقليل، منا قادرون على الرحمة".

كلنا خلقنا من أجل الحبِّ، ومن بين الكل قلة ينقشون درب الرحمة، ينتشلون من المضغة الساكنة فيهم شعور الرأفة، تلك التي تأتي دافئة متى استدعتها اللغة، بدفء رحم الأم الذي يأوي إليه الجنين لشهور، ودفء لمة الأحباب عند صلة الرحم، بدفء السكن إلى الزوجة في قوله عز وجل: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" [الروم:21]، وبدفء الرقة الإلهية، والمغفرة العظمى: "رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً" [الكهف:10].

فلم يسمِّ موضع الجنين حباً ولا جمعة الأقارب حباً ولم تدع العلاقة بين الزوجين حباً ولا مغفرة الله حباً… بل أطلق عليها "رحمة" لأنها أقوى من الحب وأقرب إلى القلب من الحب وأعمق بدرجات منه.

أن تكون رحيماً بالآخر، وأن ترنو إليه بعطف وحنان فأنت أقرب إليه من أن ترمقه بنظرة حب.

هذا الإحساس الراقي المطرز بأسمى المشاعر بات ينجرف نحو الانقراض، وما نعيشه من قسوة وجشع خير دليل على ذلك. إذ اللإنسانية التي صرنا نسبح فيها ليل نهار منبعها رحمة اجتثت من رياح القسوة.

يقول مصطفى لطفي المنفلوطي: "لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا مغبون، ولا مهضوم ولقفزت الجفون من المدامع ولاطمأنت الجُنوب في المضاجع، ولمحت الرحمة الشقاء من المجتمع كما بنحو لسان الصبح مدام الظلام".

كنت وما زلت أقهر كلما رأيت موقفاً لإنسان متجرد من حروف انتمائه… يقف بجبروت يأمر وينهى ويدفن إنسانيته تحت قدميه ثم يفتخر بفعله عند الفراغ منه، ليشمئز داخلي ويصيح مدوياً بصمت أكره الإنسانية التي جمعتني بكم!

فوحدها الرحمة قادرة على أن تتوج صفة الإنسانية في البشر، ولا الحب ولا غيره يملك ذات القوة. ولولا القطرات المتبقية منها في الكون لتساقطنا تباعاً في بئر الوحوش، ولتسابقنا نحو القاع لاهثين.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد