طفل يعاني بداخلنا

إلى أن استيقظت وأنا عشريني العمر ضخم البنية خشن الصوت.. جالس على طاولة الكبار أحتسي قهوتي برفقتهم أرى وأسمع قهقهاتهم، أشاركهم الكلام ويشاركونني إياه، إلا أنه لا يضم شيئاً مما كنت أتصوره قبلاً!

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/30 الساعة 04:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/30 الساعة 04:45 بتوقيت غرينتش

وأنا طفل كنت أجد نفسي دائماً أتداول رفقة زملائي مواضيع من قبيل لماذا يضرب المعلمون الأطفال؟ وكيف يستطيعون فعل ذلك رغم أنه في الحقيقة فعل شنيع لا نستطيع ببراءتنا آنذاك رؤية أحد يتلقاه حتى؟ كنا نتساءل لماذا جئنا لهذه الحياة؟ من أين جئنا؟ ومن يرعانا؟ وأين يوجد؟

تساءلنا كذلك باندهاش كيف يستطيع "بيل كلينتون" حينها أن يصرح للعالم بأنه يبذل ما في وسعه لإيقاف نزيف القتل والتصفية بحق الفلسطينيين دون أن يكتشف الآخرون أنه يكذب؟! كيف لم يعرفوا ذلك ونحن الصغار كشفناه؟! لماذا لا يصرخ أحد في وجهه على التلفاز ليقول له ببساطة: أنت كاذب؟! ويعاقب هو كذلك كما نعاقب نحن في الصف إن ارتكب أحدنا خطأ ما.

كنت أتساءل عن الغد وكلي شغف وتطلع للكبار؛ لأنني كنت أظن كلامهم ومجالسهم جد معقدة من حيث المواضيع واللغة وطريقة الخطاب.. فما نطرحه نحن الأطفال الصغار ليس سوى هرطقات ليس علينا الكلام بها؛ لأننا لسنا في سن ملائمة لذلك -كما قد قيل لنا- لذا علينا أن نلزم الصمت في حضور من هم أكبر منا سناً.

تساؤلات كانت تتولد يوماً بعد يوم، ما يكاد ينطلق أحدها حتى تنبثق عنه أكوام متشعبة ومتسلسلة أخرى.. كلها لم يسد نهمي لمعرفتها سوى أمل الغد أن الآخرين الكبار يعرفون كل هذا، فكل ما عليَّ هو الانتظار لسنوات حتى تتفتت عن أعيني كل الغشاوات وأطلع بتنور على كل هذا الذي حتماًيعرفه الكبار الآخرون.

سأجلس أنا كذلك غداً على طاولة النقاش التي لا يخلو منه أي مجلس سواء كان لقاء أصدقاء أو عمل أو.. وسأكون جزءاً من تلك النقاشات التي حتماً ستكون عميقة ومركبة وما زلت لا أستطيع فهمها الآن.. على هذه الآمال أغلق عيني فوق وسادتي أنام مبتسماً منتظراً بشغف البراءة وتطلع الصِّبا.

إلى أن استيقظت وأنا عشريني العمر ضخم البنية خشن الصوت.. جالس على طاولة الكبار أحتسي قهوتي برفقتهم أرى وأسمع قهقهاتهم، أشاركهم الكلام ويشاركونني إياه، إلا أنه لا يضم شيئاً مما كنت أتصوره قبلاً!

مواضيع سمجة وأجواء مكهربة وأعذار تافهة للنزاعات بينهم لم نكن نعيشها ونحن صبية.

نقاشات شرسة حول كرة القدم أو الجنس تأخذ من الحوارات ثلثيها على القليل، لا تُمل ولا تُكل اليوم وغداً وبعد غد.. لا يقطع ضجيجها سوى إشارة من أحد الجالسين في اندهاش قائلاً: انظروا خلفكم! فيلتفت الجميع في سرعة تكاد تحسب من شدتها أنه قد رأى ظاهرة جوية ما أو إعجازاً خارقاً ظهر فجأة؛ لتجدهم يومئون جميعهم في اتفاق: نعم يا لها من فتاة رائعة!

وبالحديث عن تساؤلات السياسة و"بيل كلينتون" وفلسطين.. فكان ما وجدته مختلفاً عما سبق بالمناسبة، نعم، كانت هذه القضية مختلفة تماماً عن باقي المواضيع الرياضية والمجتمعية الساذجة؛ ذلك لأنها لم تكن تُذكر من الأساس!

وبعد كل هذا صار الأمل اشتياقاً، والشغف حنواً لطفولة البراءة والنقاء التي حررتنا حينها من قيود المادة والتظاهر والمُراءاة.. علمت الآن أن أجلّ ما يمكننا بلوغه في هذه الحياة الدنيا هو الحفاظ على ذلك الطفل نقياً راقياً.. الاهتمام به ورعايته كل يوم وهو بداخلنا.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد