أذكر في رحلتي إلى مدينة "بختشي سراي" الواقعة جنوب سيمفروبل – عاصمة شبه جزيرة القرم – عام 2011، أن قابلتُ الحاج التتري المسلم/ سيد محمدوف على مصطبةٍ في فناء خانية القرم، شيخ جاوز السبعين عاماً يتكئ على عكازه ويقبل نحوي بوجه بشوش، ويجلس بجانبي قبل العصر بقليل، ثم يبادرني بالسؤال إن كنت سائحاً هنا (وواضح أنني لست بأجنبي فملامحي العربية سبقتني في تعريفي)، فأجبته بود أنني لست كذلك، بل أنا عربي وأعيش هنا، فابتسم وأخذ يغير جِلسته وكأنني أحد أحفاده الغالين على قلبه، سلّم عليّ بحرارة مرحّباً بي ولسانه لم يكد ينتهي من وصف الخانية وجمال المكان ودولة القرم "العثمانية"، فقلت له أنا من فلسطين، توقف الحاج سيد محمدوف برهة وعلامة التعجب والألم معاً كانتا قد طُبعتا على محياه.
كان للمسجد الأقصى والقدس عموماً في حياة الحاج سيد محمدوف قصة حب فريدة، كفلسطيني كنت أتوقع أن يكتفي بالدعاء والنصر لفلسطين، وكأنه حدث داخلي يهم العرب، وأنه كمسن تَتَريّ في منطقة بعيدة جداً عن محفل أحداث منطقتنا العربية لا يعير اهتماماً لها، لكن هذا العجوز أدهشني بالفعل وقتها، حدثني عن سماعه لاحتلال فلسطين من والده في 1948، وعن النكسة، وعن حرق المسجد الأقصى، وعن حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وعن الانتفاضة والرئيس أبو عمار، شعرت وكأنني أجالس عجوزاً في حارتنا، إذا كان هذا فقط الحاج سيد محمدوف في دقائق معدودة قص عليَّ شوقه وحبه لفلسطين والقدس ومتابعته لأخبارها، فما بالي لو جالسته وقتاً أطول من ذلك؟ كان بالفعل لن يصمت حتى يضعني في صورة ما يختلج قلبه وروحه من ألم وقلة حيلة.
الحاج سيد محمدوف، الذي يسكن قبالة خانية القرم في "بختشي سراي"، نادى على أحد أحفاده أثناء تواجدي بقربه، وألحّ عليَّ بشرب الشاي معه، قائلاً لي بلكنة تترية: تأتي من فلسطين ولا تشرب معنا شيئاً هذا مستحيل هل تريد أن يقولوا في فلسطين إننا لا نكرم ضيوفنا؟ ابتسمت له شاكراً على الشاي وعلى الجلسة العظيمة التي كانت بيننا، بل على الدفعة القوية التي أعطانيها، فقد أيقنت أن الأقصى وفلسطين في وجدان الملايين حول العالم، قضية وعقيدة لا تتزعزع من صدورهم.
حتى ما انتهينا من ضيافة العجوز المتواضعة، فإذا بدخول ميقات العصر، فشكرته متمنياً له طول العمر، وحسن الخاتمة، واستأذنته للصلاة، أما الموضأ فتدخل إليه من يسار الباب الرئيسي، وعلى غير المتوقع فقد كان البناء على هيئته منذ تأسيسه تقريباً، يتوسط المكان خزان إسمنتي ممتلئ بالمياه يظهر أنه رُمم حديثاً يوزع المياه عبر قنوات صغيرة للمتوضئين، الذين يلتفون حوله بشكل دائري، ولفت انتباهي باب خلفي يفتح نحو مقبرة الخانية الصغيرة، التي تضم رفات حكام الخانية وأسرهم قبل مئات السنين، والكتابات العثمانية بأحرف عربية على شواهد قبورهم لا تزال ماثلة للعيان.
سِحر المكان وقدسيته حتماً يجعلانك تشعر بالرهبة، ولا أبالغ لو قلت إنني شعرت وكأنني في ساحة الأقصى، فالطرز المعمارية المستخدمة في القرم لا تختلف عن نظيرها في القدس ودمشق وغرناطة على سبيل المثال لا الحصر، هنا كان تاريخ مجيد وعريق، وكانت هنا دولة ومساجد وكان مسلمون يحيونها في ظل إمبراطورية عثمانية حكمت تلك المنطقة من القارة، قبل أن ينالها الغزو والتهجير العرقي والقتل الجماعي من قِبل القيصرية الروسية ولحقها الاتحاد السوفييتي، والآن ترزح تحت سلطة روسية تقمع وتعتقل وتضيق الخناق على عمل وحياة ومؤسسات مسلمي تتار القرم منذ 2014م.
مكثت ذلك النهار الأروع على الإطلاق في استكشاف المدينة ومرافق الخانية، فكما يبدو كان حاكم القرم بقصره يستقبل زواره جالساً على كرسي خشبي فاخر، وأمامه صفان من المصاطب المنجّدة بالقماش، وسجادة كبيرة تتوسط بهو صالته، بينما امتلأت جدران القصر بالآيات القرآنية والزخارف الإسلامية الواضح أن راسمها قد بصم إبداعه وخياله الأخاذ.
أشجار كثيرة تملأ الأرجاء، ومئذنة عالية على يمين المسجد تعانق سماءه، وهدوء واضح يضربك فور المثول أمام متحف الخانية، ببساطة أخبرك: كيف لك أن تكون هنا ولا يصيبك الحب يا صديقي، كل شيء هنا يحتّم عليك الذهول والفخر في آنٍ معاً، عليك أن تقاوم شغفك بباريس ولندن؛ لتنال شرف هذا المكان الأنيق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.